سودان فيرست- الطيب إبراهيم
(من لا يملك قوته لا يملك قراره)..
ثمة عبقري مجهول قدّم حكمة ذهبية للإنسانية ومضى في حال سبيله، مُفضِّلاً انتشار حكمته على اشتهار اسمه، ولزمن طويلٍ صمدت الحكمة مُتجاوزةً تقلُّبات الدهر وآمن الناس بها.. لكن في السُّودان تبدو الحكمة لا مكان لها في اختلالات السياسة، حيث إن (من يملك قوته برضو لا يملك قراره).
القاعدة الأخيرة المُختلة تنطبق بحسب مُراقبين على مزارعي القمح بالجزيرة.. فرغم أنّهم يحرثون الأرض وينتقون التقاوي ويشترون الأسمدة بعرق جبينهم ويدفعون من دمهم للعَمَالة، وبخلاف ذلك، فإنّهم مُلاك الأراضي وأصحاب الحق الأصيل، لكن في نهاية الأمر، فإنّ الحكومة بقرارٍ تنفيذي صادرت منهم حق بيع منتوجهم وحصرته في البنك الزراعي فقط، ومن يعترض على ذلك فإنّ مصيره السجن والغرامة والمُصادرة وفقاً لمنطوق القرار.
ردود فعل مُتباينة
قرار حصر شراء القمح عبر البنك الزراعي، أشعل الرأي العام والمُهتمين في الجزيرة، وبينما يرى خُبراء، أنّ القرار وضع حَدّاً للتهريب والاحتكار و(السّمسرة)، يراه البعض مُعيباً ومُجحفاً بحق قطاع إنتاجي عريضٍ يجب أن تكسبه الحكومة بدلاً من مُضايقته بقرارات فوقية.
ووصَفَ البرلماني السابق عن كُتلة المُستقلين مبارك النور، القرار الحكومي بـ(الكارثي)، لجهة أنّه يسرق جُهُود مئات المُزارعين بتحديد سعر القمح وفقاً للمزاج الحكومي وليس السعر العالمي، مُشيراً إلى أنّ الحكومة منذ عهد الإنقاذ تسرق جُهُود المُزارعين بتحديد سعرٍ غير مُجزٍ، وبشأن ما إذا كان القرار سيضع حدّاً للتهريب، قال النور في حديث لصحيفة (سودان فيرست)، إنّ المُزارع غير معني بالأمر، وإنّ الحكومة هي من تُوقف التهريب بحراسة الحدود وليس احتكار شراء السلعة.
بلاشفة جُدد
بالنسبة لـ”عادل عبد العاطي”، فإنّ قرارات حَمدوك بنزع أحقية المُزارعين من بيع محصولهم، تشبه لحدٍّ كبيرٍ قرارات البلاشفة في روسيا، والتي أدّت لموت ملايين المُزارعين في أوكرانيا، حيث كانوا ينتجون وكانت الدولة تفرض عليهم بيع القمح لها بأسعار أقل من مُجزية، بل تُصادره منهم، ومن يعترض يُواجه بالعُقُوبات الصّارمة كما يُهدّد القرار، واعتبر عبد العاطي في تدوينة على صفحته بـ(فيسبوك) أنّ حمدوك بقراره هذا وضع نفسه في مُواجهة مع مئات المُزارعين وفي خضم معركةٍ خاسرةٍ لن ينتصر فيها أبداً، مُشدّداً على أنّ حصر حق الشراء على جهةٍ واحدةٍ هو تقييدٌ لحُرية المُنتج ومُحاربة للمُنتجين، ما يؤدي في نهاية الأمر لقتل الاقتصاد ويُشكِّل مُحاباةً واضحةً لأحد اللاعبين في السوق ومُحاربة لغيره، وهو ما يُسمّى باقتصاد (الأولغارشيا) أو اقتصاد المافيا، حيث تتحكّم القرارات السِّياسيَّة في العملية الاقتصادية ويتم إغناء الناس أو إفقارهم بقرارٍ من مَسؤولٍ تنفيذي. ودعا عبد العاطي، المُزارعين إلى عدم الانصياع للقرار الحكومي، وحَث القانونيين بالوقوف مع المُزارعين ودعمهم في معركتهم النبيلة مع السُّلطة التنفيذية.
مُوافقة مشروطة
في أول رَد فعلٍ، وضع تحالُف مُزارعي الجزيرة والمناقل (كيان مُوالٍ للحكومة)، جملة اشتراطات، اعتبرها ضرورية للمُوافقة على قرار رئيس الوزراء ببيع محصول القمح للبنك الزراعي. وشدّد بيانٌ صادرٌ عن التحالُف، تلقّت صحيفة (سودان فيرست) نسخةً منه، على ضرورة رفع السعر التركيزي للمحصول لـ(3500) جنيه للجوال الواحد، مع ضرورة توفير الحاصدات والجازولين والخيش، والالتزام بالترحيل من مناطق الإنتاج إلى مخازن البنك الزراعي. لكن هذه الاشتراطات بدت غير مقبولة لقطاعٍ واسعٍ من المُزارعين استنطقتهم (سودان فيرست)، حيث اقترح بعضهم (4200) جنيه للجوال، بينما طَالَبَ آخرون بمنحهم حق التصرُّف في محصولهم بالبيع للجهة التي تدفع أكثر.
إشكالية قانونية
ليس بعيداً عن ذلك، يرى رئيس تحرير صحيفة “الفلاح”، أيوب السليك، أنّ المُزارعين غير مُلزمين ببيع محصول القمح للحكومة، لافتاً إلى أنّ الأمر المقبول هنا أن تسترد الحكومة دُيونها على المُزارع بالسعر المُحَدّد لجوال القمح، على أن يترك للمُزارع حُرية التصرُّف في مُتبقي محصوله ليُحدِّد السعر الذي يبيع به والجهة التي يبيع لها، واعتبر السليك ما تقوم به الحكومة ليس سوى سرقة لعرق وتعب وجهد المُزارعين بجرة قلم من رئيس الوزراء، وتوقّع السليك أن يجد القرار مُناهضة كبيرة، لأنّه لا يُوجد عَقدٌ مُلزمٌ ببيع القمح للبنك الزراعي، ولا تُوجد في الوثيقة الدستورية التي تحكم الفترة الانتقالية فقرة تجبر مُزارعاً على بيع محصوله لجهة مُعيّنة.