الخرطوم- سودان فيرست
في تلك الليلة الأبريلية الصاخبة، بدأت الهتافات في العاصمة الخرطوم تشق عنان السماء، كانت أكثر العبارات وضوحاً “تسقط بس” و”نافع ذاته ما نافع”، حتى تحولت إلى أهزوجة سياسية، وقتها أنهى الدكتور نافع علي نافع القيادي بالحزب الحاكم ومساعد الرئيس الأسبق، ومدير جهاز الأمن العام في مطلع التسعينات، أنهى اجتماعاً طارئاً بمقر المؤتمر الوطني، الحزب الحاكم حينها والذي بدأت تتسرّب منه السُّلطة فعلياً، كان هو الاجتماع الأخير تقريباً، لكن نافع منذ فترة توقّف عن التصريحات المُستفزّة ضد خصومه، حتى أنه تحول على نحوٍ مفاجئ وهو يعزف على جيتار التغيير، من صقور النظام والدفاع عنه بصورة مطلقة، إلى نشدان الإصلاح في بنية الحزب والدولة، على الأقل ظاهرياً.
هل ثمة خيانة؟
جلس نافع علي نافع نهار الأربعاء على مسندة من القلق داخل منزله بضاحية بُرِّي وهو يُراقب تطورات الأحداث، كان يلتقط بوضوح أصوات المواكب المُتحرِّكة صوب القيادة العامة للجيش، حتى تعود عليها، في وقت كانت القوات المُسلّحة تتأهّب لاستلام السلطة، وإنهاء ثلاثة عقود من حقبة البشير، لم يفق إلا على صوت المارشات العسكرية فجر الخميس 11 أبريل، وقد أدرك لتوِّه أن شيئاً غامض سارع بحتف الإنقاذ، ولحس تحدي “لحس الكوع” وقد أدخل في روعه انقلاب كبار قادة الجيش على المشير البشير، كما لو أنّ خيانة قد حدثت بالفعل، بيان الفريق عوض ابن عوف المنحاز للشارع، رسم خطوطاً جديدة عن الدور الذي سوف تلعبه المؤسسة العسكرية من اليوم ولاحقاً، لكن نافع كان يصوب كل شكوكه صوب مدير جهاز الأمن الوطني والمخابرات وقتها الفريق (صلاح قوش) فكيف استقبل رجل الإنقاذ القوي خبر النهاية، وماذا دار بخلده وقتها؟
كشف مصدر مطلع لـ(سودان فيرست) أنّ نافع علي نافع تلقى مكالمة أخيرة، في وقت متأخر من الليل، أخطرته بإحكام الجيش على قبضة البلاد، وتحرّك ضباط جدد داخل القيادة، بينما البشير تم التحفظ عليه ونُزعت منه الصلاحيات، وأن شخصيات من داخل جهاز الأمن والشرطة شاركت في التغيير، لكن أسماء الضباط الذين تولوا المهمة أثارت حيرته، أغلبهم يعرفهم عن قرب.
بعدها سارع للاختباء في إحدى شقق الخرطوم، كانت الاستخبارات العسكرية مدعومة بقوات من الدعم السريع قد تولّت مهمة اعتقال رموز النظام السابق، وكان نافع الذي حاصرته الشائعات بالهروب عبر المنافذ الشرقية، يتنقل من مكان إلى آخر داخل العاصمة السودانية بسرية تامة، حتى تم القبض عليه بمنزله يوم السبت 20 أبريل 2019.
ناقوس خطر
كان د. نافع يحدق في ساحة الاعتصام يومياً وهو يُغادر منزله، على أمل استثمار هذه العاطفة الثورية في إنجاز مصالحة وطنية، وتغيير شامل تقوده المؤسسات التنظيمية، بدأ له أنّ كرة الثلج تكبر رويداً رويداً، رغم أنه أدرك تسارُع الأحداث في غير صالح تصوراته، وفقاً لنجله عبادة، الذي كشف لـ(سودان فيرست) ما كان يُؤرِّق بال والده، إذ كان ينظر للمطالب بأنها مشروعة، وأن للشباب الحق في الاحتجاج والحياة الكريمة، لكن مخاوفه جلها إزاء اختطاف “اليسار والبعث” لتلك المطالب واستثمارها سياسياً، حد إسقاط النظام والنَّيل من الحركة الإسلامية.
مُؤامرة (قوش)
أكثر شخص بدأ نافع يشكك فيه منذ وقت مبكر، هو مدير جهاز الأمن نفسه “صلاح قوش”، حتى أنه حذر الرئيس المخلوع منه، أكثر من مرة، آخرها في وفاة عمه، عندما جاء الرئيس البشير وقتها معزياً، فطلب منه نافع أن يأخذ حذره من (قوش)، لكن البشير لم يأخذ الأمر على محمل الجد، وفقاً لـ”عبادة”، الذي يعتقد أن الفريق صلاح قوش هو الذي كان على تواصُلٍ مع قيادة المعارضة من وراء ظهر البشير، وقد مهّد لهم الطريق للوصول إلى ساحة الاعتصام.
رسالة في البريد
لم يكن الدكتور “نافع علي نافع” رجل الإنقاذ القوي، وأحد رموزها يدرك أنه بانتمائه للتنظيم الإسلامي في جامعة الخرطوم وقتذاك وتقلده من بعده منصب مدير جهاز الأمن في بداية حكم الإنقاذ، أن النهاية ستكون داخل حبس انفرادي بمُعتقل كوبر، وبحسب مُقرّبين فإنّ الرجل ربما خانته قُوته وثقته الزائدة بالنفس فهو حتى اللحظات الأخيرة كان يُهدِّد ويتوعّد من يُحاول اقتلاع شجرة المؤتمر الوطني، مردداً إبان الاحتجاجات (شجرة الإنقاذ دايرة ضراع قوي عشان يقلعها) وبالرغم من ذلك، فإنّ نافع كان ضد إعادة ترشيح البشير، ويُنادي بتغيير القيادة، بشكل يُحافظ على استقرار الأوضاع.
اتفاقٌ مُبرمٌ
في ما يخص هروبه، كشف عبادة لـ(سودان فيرست) عن أسرار تنشر لأوّل مرة، وقال إن محاولات هروب والده مجرّد شائعات، سواء كان ذلك بعد الثورة في سهول البطانة، أو بعد الاعتقال من داخل سجن كوبر، مشيراً إلى أنّ والده بعد أن دقّت مارشات الجيش، غادر المنزل دون الإفصاح عن وجهته، كان بمعيته ثمانية من قيادات المؤتمر الوطني، بقوا جميعهم داخل إحدى شقق الخرطوم لساعات، وذلك بهدف معرفة اتجاه بوصلة الأحداث.
في هذا الوقت داهمت المنزل بضاحية بُرِّي، قوة من جهاز الأمن والدعم السريع وقامت بالتفتيش ولم تجد نافع، حدث هذا بمعدل مرتين، وأضاف عبادة: “بعدها فقدنا الاتّصال بوالدي، وظلننا تحت المُراقبة المُستمرّة من قبل الأجهزة الأمنية، وحين عجز المجلس العسكري عن الوصول إلى والدي، قام عن طريق أحد الأشخاص بعقد صفقة معه”، وأشار إلى أن طبيعة تلك الصفقة بأن يسلم نافع نفسه للسُّلطات مقابل صمت الشارع وقوى الحرية والتغيير، ومن ثم الإفراج عنهم، ويضيف: “بالفعل وافق أبي ومن معه، حتى أننا اعترضنا وقلنا له ما هي الضمانات التي تجعلك تُسلِّمهم نفسك؟” فأجابنا وقتها: (مافي ضمانات، وما أي حاجة في الدنيا دي فيها ضمانة، حنسلِّمهم أنفسنا ومافي عوجة).
عتابٌ ولومٌ
ويمضي عبادة في رصد التفاصيل الأخيرة لأيام والده خارج الحبس ودخله أيضاً، مؤكداً لـ(سودان فيرست) أنّ الاتفاق تمّ بالفعل بين والده والمجلس العسكري على أن يحضر إلى المنزل، ليتم اعتقاله في الخامسة والنصف مساء يوم ٢٠ أبريل، أي بعد سقوط النظام بنحو تسعة أيام، بيد أن المجلس لَم يَفِ بالتزامه، وكشف عن تفاصيل زيارة الأسرة له داخل السجن، وذلك بعد ٤٠ يوماً من الاعتقال.
يقول عبادة: “أول ما قلته لأبي: هل ذهبت للرئيس وأخبرته بأن مخاوفك حيال الفريق (قوش) قد صدقت، فأجابني قائلاً: (دا ما وقتو، أنا ما ح أجي ألومه الآن)، مؤكداً أنه رأي والده قوياً متماسكاً، رغم أن ما يتعرّض له والبقية مُجرّد اعتقالات تعسفية وكيد سياسي، لا علاقة له بالعدالة – على حد وصف عبادة.
كم ناقة؟
في ما يخص الحديث، عن ثروات نافع التي نُسجت حولها الأحاديث، يقول نجله لـ(سودان فيرست) إنّ والده يمتلك بضع وثلاثين ناقة وليس لديه رؤوس من الضأن كما يُشاع، قائلاً “ليس لدينا أموال وكنوز، وعندما يسأل أي شخص عن حقيقة ما يقال، فإنني دائماً ما أجيب: من كان له دليل فليثبت ذلك ويأتينا بتلك الأموال”، مشيراً إلى أنّ السُّلطات في اتّهاماتها تستقي معلوماتها من مواقع التواصل الاجتماعي.
ماذا قال عن إطلاق سراحه؟
لم يتخل نافع علي نافع حتى داخل محبسه عن سخريته المعهودة، أو طريقته اللاذعة في الجهر بآرائه، حيث ظل يسخر من قوى الحرية والتغيير ويعتبرهم ناس (مُستجدين) بحد تعبيره، وقال عبادة “والدي الحمد لله بخير، وكل ما يُشاع عنه ليس حقيقة، فهو متحفظ عليه لأسبابٍ سياسيةٍ، ويعتبر قوى الحرية والتغيير ناس مستجدين حكومة”، وعندما صدر حكم بالإفراج عنه، سخر نافع قائلاً: (انتو مغيبين، ديل ما حيفرجوا عننا، لأنهم لا يتعاملون بالقانون).