تقرير ـــ محمد الأقرع
(الفن والثورة) رغم أنهما مصطلحان يتقاربان في المعنى الذي يشير دائماً الى أن ثمة فعلا نحو الأفضل، الا أنهما في ذات التوقيت يمثلان قضية شائكة ومتفرعة متى تأتي سيرتها يتولد عدد من التساؤلات، عن الفنون وأدوارها في الثورات..؟، الثورة وتغذيتها للأدب..؟ عن مواقف الفنانين والمطالبات بقيادة التغيير ..؟، عن أدب الشعارات وميلاد نجوم ثائرين..؟، وغيرها من الاستفهامات الكثيرة والقضايا ذات الارتباط مما يؤكد أن الموضوع ليس بالسهل احتواؤه، لكن “سودان فيرست” حاولت أن تجد إجابات ولو مبسطة عن التساؤلات السابقة وذلك عطفاً على الثورة السودانية وما أنتجته أدبها الخاص.
الأغنيات والثورة
الأغنيات هي وسائط دعائية كما تقوم بأدوار التحفيز على التغيير، تقوم أيضاً بأدوار تخدير الجماهير، هي مثل “القنوات الفضائية، الأذاعات، الصحف” يمكن أن تقوم بنفس الأدوار إذا وضعت في المسار الصحيح، بل وتتميز بمساحات قبول وتأثير أسرع، ويرى بعض النقاد أن الاغنيات تستطيع أن تصنع ثورة متى ما توفرت أسبابها الموضوعية، بينما يرى آخرون أن الثورة تصنعها الشعوب ودور الفنانين كأحد أطيافها هو التأجيج والحث عليها وتفسير أحلامها وتطلعاتها وليس الخروج في الشوارع والهتاف.
ديسمبر والفنون
الحراك الشعبي الذي أنتج ثورة ديسمبر في السودان قبل عام، قابله مد موازٍ في الأعمال الأدبية الثورية التي تحرض على الخروج وتوثق للمرحلة، ويلاحظ أن غالبية أعمال المقاومة التي كان يتم تداولها على وسائط التواصل الأجتماعي بصورة كبيره أتت معانيها دائماً متسقة مع شعارات الشارع وأحلام الثوار ومطالبهم، علماً بأن الأغنيات والفنون عموماً هي وسائل فاعلة في الثورة بكل أطوارها “التحريض، الحماس، الثبات، الأهداف، الأحلام، الاحتفاء والتوثيق بعد نجاحها” متى ما استدعت الظروف وتحرر الفنانون والشعراء من سجون التسبيح بحمد الطغاة.
هتافات الثائرين
ثمة أدب آخر تنتجه الثورات وهو “أدب الشعارات وهتافات الثائرين” الذي يكون “ولعلها هي الملخص الحقيقي للحالة النفسية للجماهير ومطالبها”، فإذا أردت أن تتعرف على أسباب ودوافع ذلك التحول الاحتجاجي وقياس مدى اتساع وغبن وأحلام الجماهير وأمنياتهم ما عليك سوى الاستماع لما تردده الجموع الثائرة وتمحيص ما كان يقال وسط ذاك الهدير المبارك.
“هتافات الثائرين وشعاراتهم” يمثل بالضبط أدب اللحظة الحاسمة أو الفاصلة بين عهدين، الأول يعمل على الدوام في تثبيت أركان حكمه على مبدأ فرض الرقابة المشددة في تكميم الأفواه، والثاني يؤسس لبداية عهد جديد وتأتي تلك “الهتافات” لتكون الجسر الذي ينعي الحقبة السابقة ويشكل الأحلام القادمة، ويعتقد مراقبون أن هتافات الثائرين قد تكون بسيطة في سياقنا لكنها ذات مدلولات كبيرة.
شعارات الثورة أدب يتخلق في وجدان الناس، لكنه يولد أثناء الاحتجاجات، لذلك يكون صادقاً وواضح المقاصد وخاليا من التشوهات، بيد أن هذه الهتافات قد تكون لأعمال فنية كبيرة، بل حتى مشاريع سياسية واقتصادية فهي موضوعة على ميزان ما يتطلبه الشعب.
هتافات الثائرين في ثورة ديسمبر، كانت تأخد هي الأخرى عدة مناح، منها ما هو مطلبي ومنها ما هو تحريضي حماسي، مثلاً الاحتجاجات الأولى التي انطلقت في عطبرة كان المحتجون يهتفون فيها قائلاً: “شرقت.. شرقت عطبرة مرقت”، وعلى ضوء ذلك تسابقت المدن الأخرى في تناقل الشعار مع وضع اسمها. “حرية.. سلام وعدالة والثورة خيار الشعب” كان الشعار الرئيسي في الثورة، ومثل جذوة الحلم الشعبي وغاية الخلاص، وتراوحت بعد ذلك الشعارات، بعضهم كان يهتف تمجيداً للشهداء ومطالبةً بالقصاص، والبعض الآخر كان يردد شعارات التحدي “نحن الجيل الراكب رأس”. في البداية كانت الشعارات جلها ينصب في إسقاط نظام البشير ومن ثم مجلس (ابن عوف)، بعد السقوط الأول والثاني كانت الهتافات تأخذ طابعا احتفاليا، مثلاً اصطف الكثير من الشباب في حلقات راقصة مرددين شعار (تلاتين سنة بترقص الليلة رقصتنا)، وفي ذات السياق أيضا كان يتمايل آخرون على وقع الشعار القديم المتجدد (فوق فوق سودانا فوق)، أهازيج الفرح لم تمنع من صعود مطالب أخرى، كان البعض يجولون وهم يهتفون بـ(حل جهاز الأمن وإقالة قوش)، كذلك كانت الشعارات تحفز وتحذر المجلس العسكري من تحقيق مطالب الشارع مثل: “يا برهان أدينا ضمان”، “سقطت ما سقطت صابنها”.. آخر أيام الاعتصام كان الكل يردد “ما راجع أنا لي مطالب جيبوا حكومة الحكم المدني ودم ـ الكوز ـ القتل الطالب” . وحين اطلت إرهاصات فض الاعتصام قابلها الثوار بشعارات متحدية وقوية مثلاً كانوا يهتفون “يا أخوانا الموت الموت بي جاي موت ما عادي موت في رمضان وبدوشكا كمان ومعاهو جنة”، بعد جريمة المجزرة مازالت الشوارع حتى آخر خروج تهتف “للمجلس مافي حصانة يا المشنقة يا الزنزانة”.
أخيراً
عموماً الثورة السودانية أنتجت أدبا غزيرا جداً في الشق المتعلق بالشعارات والأغنيات، كذلك كانت ملامح الفن التشكيلي حاضرة بقوة، اليوم الشخص الذي يتجول في شوارع الخرطوم يكتشف كماً هائلاً من الجداريات التي تشير بأن ثمة ثورة كانت هناك.