الخرطوم ــ سودان فيرست
لا شك أن أسمى غايات جميع المنتجات والمنجزات البشرية في شقيها المادي والأدبي، كان يهدف بصورة كلية إلى تحقيق السلام سواء كان على المستوى الشخصي أو الإقليمي أو العالمي.. وعلى ضوء ذلك يمكن القول والجزم إن أعظم أدوار المثقف أو الأديب المبدع على مَرّ العصور هو سعيه إلى إنزال حلم السلام والطمأنينة على أرض الواقع ونفوس الناس.. ويبدو أن كبار الفلاسفة قد وعوا هذه النقطة جيداً، فبنوا قراءاتهم وأمنياتهم عليها، وخرجت إبداعاتهم كدعوات مقاومة تحد من هتافات الحروب.. في المقابل وعلى الدوام، ظلت المجتمعات تتفاعل وتحتفي مع قضية السلام وتشتهي تحقيق هذا الحلم، خاصة عبر مرايا الأغنيات التي قام بعكسها أصدق الشعراء وأنبل الفنانين وأعمقهم.
ولعل الأغنيات في هذا السياق كانت تأخذ عدة مناحٍ، فمنها من ينسج الأحلام بالسلام، ومنها من يحتفي به وأعظمها الأغنيات التي كانت تقدم رؤى كاملة للسلام.
المتابع والراصد للحراك الغنائي في السودان، سيتكشف له مع أول وهلة أن الأعمال في سياق قضية السلام شحيحة، مقارنةً بحجم واستمرار الصراعات والحروب على مدار سنوات طويلة، ولعل هذه الندرة في التناول تفتح التساؤلات حول المسببات التي أدّت إلى خنق حنجرة الغناء السوداني عن الترنيم بهذا الحلم الجميل…؟ بالإضافة إلى كيفية إثارة رغبات الشعراء والمغنين ودفعهم في الاحتفاء بالسلام والترسيخ له…؟
الأغنيات في سياق قضية السلام بالسودان، كانت تميل غالباً بتشجيع وتعبئة القوات للقتال ومطالبها بفرض السلام بالقوة، وهذه الرؤية مستمدة ونابعة في الغالب الأعم من أعوان السلطات المتعاقبة في الحكم، ولكن بالمقابل وبرغم القلة، خرجت أغنيات معافى ترى للسلام وتنشده، بعيداً عن أي عنف، ومن أجمل تلك الأعمال الاحتفالية التي حفظها الشعب السوداني أغنية طيور السلام للفنان سيد خليفة التي تقول:
رفرفي رفرفي يا طيور السلام
واهتفي واهتفي يا طيور السلام
وارقصي وارقصي يا طيور السلام
في روابينا يا طيور السلام
راح عهد الظلام من أراضينا
كذلك أيضاً، كانت هناك أغنيات تحمل رؤى لإيقاف الحروب وتحقيق السلام، واتخذت الأغنيات السودانية رمزية الحمام للتعبير عن السلام، ومن أبرز الأغنيات التي حاولت تقديم رؤى لمعالجة الحروب ونبذها أغنية (سوقني معاك يا حمام)، التي يتغنى بها الفنان محمد النصري، من كلمات الشاعر الراحل محمد الحسن سالم حمّيد والذي أنتج العديد من الأعمال في هذا الحلم كان آخرها ديوان شعري بعنوان (أرضاً سلاح) يقول في اغنية سوقني معاك يا حمام:
تعالوا الدم ما هو مويةِ.. ولا ها ترايي المسام
خباري بحمر في أخويا.. وطراوة الخوة ابتسام
تعالوا نحانن بعضنا.. نخل قلبو على التُمام
نبضنا يشهل أرضنا.. وأرضنا تجِم العضام
تعالوا بدل نبني ساتر.. نخيب ظن الصدام
نطيِّب للعازة خاطر.. نقوم لأطفاله سام
من أبرز الأعمال أيضاً، أوبريت الشريف زين العابدين الهندي الذي حاول في خاتمته التأكيد على قيمة السلام والعهد على تحقيقه ويقول فيها:
قسماً برب الكون رب الحسن رب الناس
خالق الأمان
صوناً لما في تربك الكريم من رفات آبائي الكرام
مجداً لصرخة الشهيد تستخف بالردى تأجج الضرام
سنسرج الظلماء من عيوننا مشاعلاً تبدد الظلام
بنيك يا سودان بالعطاء بالإخاء
بالفنون بالسلام.. عيوننا سلام.. أرواحنا سلام
عاش السلام
ويرى نقاد أن غياب أو قلة أغنيات السلام يرجع لعدة أسباب، أولها أن الأديب أو المبدع السوداني دائماً يكون تابعاً للسياسي الحاكم ومُؤتمراً بأمره، لذلك تجده يدور في فلك تفكيره الذي كان دوماً يميل للعنف والحرب، لتحقيق السلام.. أما ثاني الأسباب كما يقولون يرجع إلى وجود حالة انفصال وغياب للحس القومي، فالمعارك كانت تدور في اتجاه محدد ولا تجد التفاعلات في النواحي والأقاليم الأخرى، ثالث الأسباب التي يشار إليها كذلك هي ضعف وسائط الإعلام وتبعيتها وبثها لرؤى السلام بعين النظام الحاكم، بالإضافة لانشغال أغلب الفنانين والتغني بالأعمال التي تجلب العوائد المادية، فضلاً عن عزوف أغلبهم عن التغني للوطن وقضاياه.
عموماً.. المعالجة كما يقول النقاد تتطلب فقط كيفية إيجاد الرغبة في نفوس الفنانين بالتغيير الحقيقي وتحقيق السلام، لأنّ وجود تلك الرغبة في ظل الانفتاح الكبير في مواقع التواصل سيسهل من وصولها للناس وهدايتهم إلى سواء السكينة.