الخرطوم ــ محمد الاقرع
اصُطلح تسميتها في الأوساط السودانية بأغاني الحماسة، لأن مجرد الاستماع لها تثير في النفوس حالة الزهو والفخر التي قد تلهمك بإحساس القدرة على الفعل، لدرجة أنها توصلك أحياناً لارتكاب بعض الحماقات! بعضها قادم من دفاتر التاريخ يحكي وقائع وأحداثاً سابقة وأخرى حديثة، حشد كلمات قوية ذات تأثيرات سريع وبإيقاعات (الدلوكة) أو(التمتم) المشتعلة، هذه اللونية من الأغنيات حجزت أو اقتلعت مساحات مقدرة من أفئدة الشعب وأجهزة الإعلام المحلي.
ولا شك أن أغنية الحماسة لدى التجمعات السكانية السودانية تختلف من حيث الكلمات والأداء والقيم داخل النص، فضلاً عن اختلاف الإيقاعات، ولكن هنالك لونية محددة تستخدم ايقاع التمتم كما ذكرنا آنفاً ورائجة في المحافل المختلفة خاصة تلك التي كانت معتمدة في مهرجانات النظام البائد، وتحتل الأجهزة الإعلامية ومسارح بيوت الأعراس، فالكل كان يردد أغنيات مثل (دخولها وصقيرا حام)، (أحيت سنن البرامك).. (عاجبي طول ايدو سامك)، (صنديد اللطام سيفك للفقر قلام)، (الفارس الجحجاح)، و(الجنجيز في النجوم) وغيرها.. ولعل نسبة المداولة والقبول وكثرة الطرق والاستماع بين الأطياف المجتمعية المختلفة، فتحت الباب أمام النقّاد والمتابعين لعملية التقييم والتقويم ومعرفة مدى صلاحيتها في عصور السلمية، فبعضهم يرى بعدم تناولها كمنتوج قومي باعتبار أنها قيلت لحروب وصراعات قبيلة داخل السودان، وقد يؤدي تغنيها إلى تأجيج جراحات الماضي، البعض الآخر يؤكد أنها فقدت قيمتها التاريخية، والتفاعل معها يأتي من جودها وقدرتها على خلق عملية التأثير والاستجابة.
ذاكرة القبيلة
يقول الصحفي والكاتب محمد فرح وهبي المهتم بالفنون والآداب، آن هذه الأغنيات تمثل ذاكرة القبيلة في صراعها الطويل الأزلي للبقاء وتم هذا عبر إزاحة وإقصاء لأطراف أخرى سودانية وحين تتم قراءة هذا المورث القبلي لا تلمح غير الدماء والكراهية في الكثير منها والتي يجب أن نتعاطى معها على أنها تاريخ مخجل ويجب أن يعالج بدلاً من أن تتم إعادة بعثه مرة أخرى،
ويرى وهبي كذلك أنها في جانب آخر تمثل بعض أغنيات الحماسة إشارات حية وتوثيقية للذاكرة الجماعية للسودانيين باختلافاتهم وتبايناتهم، حيث تجد قيماً إنسانية كبيرة تتغنى لها هذه الأغنيات وتمجد أصحابها. ويشير إلى أن هنالك اختلافات كبيرة في نوعية الأغنيات، فأغنية الحماسة لدى الجعليين مثلاً تختلف كثيراً عن أغنية الحماسة عند البجا، مشيراً إلى أنه يجب قراءة التاريخ وفق منظور ثقافي اجتماعي.
المدافعون
المدافعون عن أغنيات الحماس يرون بدورهم أن هذه اللونية من الأغاني ساهمت بصورة مقدرة في صنع أغنية الوسط أو (الأم درمانية) كما يسميها البعض، التي أسست بدورها لشكل الأغنية السودانية الحدثية المتداولة الآن والتي تعتبر تطورات مرحلية لها، ويوضح هؤلاء أن هذه الأغنيات قد (تحللت!!) من الصبغة التاريخية والتعاطي معها الآن يتم بمعزل عن الأسباب التي سيقت لأجلها، بدليل الاتفاق التفاعلي معها للجميع، ويشير المدافعون أيضاً إلى أن هذه الأغنيات اختزلت حكما كثيرة وقيماً نبيلة في الشجاعة والتضحية والإيثار.
فك ارتباط
النقاد يرون أن تعالي الخطاب الرافض لأغنيات الحماسة هو انعكاس لصراع سياسي لأحزاب معارضة، أو ثقافي لمجموعات سكانية عانت التهميش اختلطت عليها الأمور فأصبحت تستمع لتلك الأغنيات من خلال نظرت الغل تجاه النظام البائد الذي كان يستخدم هذه النوعية في عمليات التعبئة والتقتيل وحملات الترويج المفضوحة. وطالبوا بضرورة فك الارتباط بين الإرث الثقافي والاستخدام الحكومي بالاضافة إلى استبدال التعاطي معها في اتجاه إلهاب الحماس تجاه العمل والبناء والفخر غير المُضر.