إبراهيم علي ساعد
معظم شهداء ثورة ديسمبر المجيدة صاحبت رحيلهم قصص موجعة وملهمة في نفس الوقت، ولكن تبقى حكاية الشهيد قصي حمدتو سيرة عطرة تستحق الاحتفاء والتوثيق…
🖋قصة الاسم:
تقول أم الشهيد قصي، إن والدها عليه رحمة الله كان يتمنى أن يرزقه المولى عز وجل بابن حتى يسميه (قصي)، وشاءت إرادة المولى غير ذلك..
وفي أيام زواجي الأولى، أخبر زوجي بتلك الأمنية، وعندما أتى للدنيا حفيده بعد شهور قليلة من وفاته كانت رغبتي أن أسميه (إسماعيل)، ولكن والده حمدتو سليمان قال إنه يحب أن يحقق أمنية جده فسماه (قصي) تيمناً بجد النبي عليه الصلاة والسلام.
🖋أول فرحتنا:
وتواصل أم الشهيد قصي: نحن خمس شقيقات، وكان قصي هو أول ولد يطل على البيت الكبير، لذلك كان صاحب محبة خاصة، كنت اعتبره مثل أخي قبل أن يكون ولدي، وكذلك بقية خالاته..
وكنت فخورة جداً به، لأن كان هادئ، ودود ومهذب، وصاحب عقل كبير، ومحبوب من كل الأهل، وصاحب شخصية قوية، وكنت أزهو به وهو يمشي بجانبي في الشارع.
🖋طفولة قصي:
قصي كان محباً للرياضة منذ الصغر، وتعلّم السباحة في وقت مبكر لأنه أصيب بالأزمة في طفولته، ونصحنا الأطباء بالسباحة وكان سبّاحاً ماهراً وهو في سن العاشرة، وكذلك كرة القدم وألعاب القوى.
وهو في العاشرة دخل معسكراً مغلقاً لمدة 40 يوماً كان به مناشط متعددة، تعلم منها الصبر والاعتماد على النفس، وأحرز المركز الرابع وتم تكريمه، وظهرت مواهبه في قوة التحمل والاستقلالية.
كانت لديه عزة نفس شديدة،
توفي والده وهو في الرابعة عشر حتى كان إنه يتحسس لما يذهب ليستلم المصاريف من أهله، وكان بقول لي لما أكبر واشتغل لازم يكون عندي أوقاف ثابتة أنفق منها وأقدم وأساعد كل مُحتاج.
🖋عمل في شركة حراسة:
لما دخل الجامعة، اشتغل في شركة حراسة ومن الحاجات البتذكرها، انو اشترى جلابية (على الله) خضراء قماشها بسيط وكان بلبسها طوالي رغم انو أهله بهدوه ملابس قيِّمة.
فسألته مرة وأنا بضحك يا قصي الجلابية دي عذبتها، رد لي وهو برضو بضحك (دي من حر مالي) عشان كده عزيزة عليّ.
وبرضو اشترى عجلة من مرتبه كان بمشي بيها الشغل، ولما ما يرد على التلفون بقول لي أصحابه أنا سايق، وهم بداعبوه (سايق برادو يعني؟)
وقصي كان بحب الدعابة والمرح شديد، وبضفي على البيت أجواءً جميلة وضاحكة.
🖋كان مُحباً وباراً بأسرته:
كان بحب يهديني الحاجات البحبها شديد، مرة من مصروفه اشترى لي طقم أواني فرنسي مازال موجوداً.
وفي حياة والده كان يرافقه طوالي، وأي حاجة تعجبه بقول ليهو نشتريها لي أمي
عندي (مبخر) هدية منه تم 15 سنة كل ما أشوفه بتذكره رغم إنه ما بغيب عن بالي..
كان باراً بوالده حتى بعد وفاته وبتصدق عنه كتير، وكان يحرص على مرافقة اي جنازة لمقابر الصحافة، وكذلك زيارة قبر والده والدعاء له.
حتى اهتماماته بقضايا الوطن والناس ظهرت من وقت مبكر، كان يحب الأكتوبريات ويدعوني لسماعها، وأنا أيضاً عندما كنت بالمدرسة كانت لي انشطة ثقافية ومشاركات في أعياد الاستقلال. وكان بحب البلد شديد ومهتم بي حال الناس، لم يكن له تنظيم محدد أو ظاهر بالنسبة لي.
🖋مواكب الثورة:
بدايات الثورة كان يا دوب رحلنا من الأزهري لي جبرة، وما كنت متابعة كتير لانو كنت مشغولة بي تجهيز حزء من بيت الأسرة شان يكون سكن لينا، وأصلاً بيتنا الكبير بيت ضيوف وزوار بصورة مستمرة.
لكن كنت بسمع الأخبار وكنت بقول ليهو يا قصي انا خايفة ليك، لكن رغم كده ما انقطع من المواكب.
كان جواي خوف شديد وفقدت الاتصال بيهو يوم محاولة الفض الاستشهد فيها، مآب وتبيدي لكن طمنوني عليهو.
ومرة قلت ليهو يا قصي قالوا حيفضوا الاعتصام ويكون في ضرب، تاني ما تمشي، قال لي خايفة علي من الموت، قلت ليهو أيوه، قال لي لو حفرتي لي خندق في الغرفة دي الجاياني بتجي.
لما يطلع من البيت بحرص أشوفه من بعيد وأدعو ليهو في سري.
كان بجيني إحساس إني يمكن ما أشوفه تاني، ومرة سألته إنت بتمشي في المواكب قدام؟ قال ابداً بكون في الوسط ولاحقاً اكتشفت انو كان بقود المواكب بس بقول لي كده عشان يطمني..
🖋عاشق البراري:
مرة في بري وهو دائماً بحرص على المشاركة في مواكبها، وبالمناسبة هي ما غريبة عليه لأنو اتولد في امتداد ناصر محطة 7،
الحصل إنهم احتموا بي بيت أسرة كريمة، ورغم كده داهمتهم قوات البطش وقبل يطلعوهم على البكاسي، عسكري ضربه بي مؤخرة البندقية وكسر موبايله، قام قصي براحة أخفي موبايله في مزهرية في صالون البيت، ولما طلعوا بره لاحظ انو العساكر حركتهم بطيئة، وبما انو رياضي وخفيف طوالي انطلق جري زي الصاروخ لغاية ما ابتعد،
واحد فيهم قال ليهو عرفناك بنجيبك بي قميصك الأصفر ده.. لذلك أول حاجة عملها اتخلّص من القميص وبقى لابس فانلة فقط ورجع المساء مع صاحبه اخد التلفون
وأنا بالجد فخورة بأهل البراري الكرام وبحييهم وأعتز بيهم
🖋روحه في القيادة:
تقول ند حمدتو شقيقة الشهيد قصي:
أنا أصغر منه مباشرة، كنا بنتلاقى في المواكب مصادفة ما حصل طلعنا سوا
هو دائماً بطلع من بري وكانت عنده ليها محبة خاصة..
يوم 6 ابريل كنا في البيت سوا، اتصل عليهو صاحبو عشان يتلاقوا في الصينية ويمشوا بري سوا للموكب،
طلعنا وما كلمنا زول هو مشى على اصحابه في بري، وانا مشيت موكب جاكسون،
بعداك المواكب وصلت شارع المطار جنب مباني جهاز الأمن وشفتو هناك.
وأنا رجعت بدري ما وصلت القيادة
يوم 7 أبريل أخدت إذن من الشغل وطلعت مع زميلتي مشينا القيادة
في مدخل القيادة شفت قصي كان شغال بربط في مشمعات عشان الناس تقعد في ظلها.
سلمت عليهو ومشيت،
وطيلة أيام القيادة كنا بنتلاقى بالصدفة خاصة في المتاريس
وحتى في البيت ما كان بجي كتير
في رمضان مرات بصلي الفجر في القيادة ويجي البيت ينوم ويرجع قبل الإفطار، حياته كانت القيادة وروحه في الاعتصام
🖋أصعب الأيام:
بالنسبة لاستشهاد قصي، أنا مؤمنة تماماً انو اليوم واحد سوى في البيت او الشارع او القيادة
فترة فقدان قصي كانت صعبة جداً علينا في الأسبوع الأول، خاصة والدتي مريضة بالسكر وحولي بناتي وأخواتي وكنت أنا الحلقة الأضعف لكن لازم أتماسك
بعدها جاتني مكالمة من مجهول انو قصي معتقل ومصاب في يده، اطمنت شوية وكنت بدعو طوالي،
لكن كنت في حالة قلق وخوف خاصة اني بقول لو صحيح معتقل، ليه ما اتصل ولا في زول شافو؟
قصي ما كان بغيب كتير عن البيت لكن ربنا سبحانه وتعالى أراد إنو يلطف بينا
ويستمر غيابه لأربعة أشهر عشان أتقبل فقده وكله لي خير عشان يعودنا على غيابه الأبدي، وهي فترة صعبة اتمنى مافي زول يتخت فيها، ويمكن لو عرفت يوم فض الاعتصام كان الوضع بكون أصعب، وبرضو كنت بقول لو لقيته في أرض القيادة يوم فض الاعتصام كان حضنته وودعته وكنت شفته بي هيئة طيبة، لأنو المحزن والموجع في استشهاد قصي، إنو يمكث 4 شهور في المشرحة بصورة موجعة حتى ملامحه اتغيّرت، ولو ما أنا أمه ما كان عرفته أكيد وحتى أخواته ما كن مصدقات، لأنو الطريقة الشفته بيها أتمنى مافي زول يشوف جناه بيها أبداً.
🖋طمأنينة وصبر:
طمأنينة كبيرة سكنت جواي يوم تشييع جثمانه لحظة أحد أعمامه قال لي قصي شهيد الواجب
وما في فخر أكتر من إنه استشهد في القيادة ودي مرتبة ما ساهلة وما اي زول ربنا بختاره
وربنا يلهمني الصبر والسكينة لأنو أقسى حاجة إنك تفقد جزءاً عزيزاً من روحك، تفقد ولدك وما تقدر تودعه ولا يقدر يحقق أحلامه ولا أحلامي كأم دايرة تشوف نجاحه وذريته
رغم كده جوّاي رضاء كبير لقضاء ربنا سبحانه وتعالى
وفي مقابل الحزن، إني فاقداه ومشتاقة ليهو لكن في فرح
إنه يستشهد من أجل الوطن وفي شهر رمضان ودي حاجة عظيمة جداً بتخفف عليّ
بالنسبة لي فقدي لي قصي ومن قبله والده وكذلك والدي عليهم رحمة الله
ربنا ما شالهم إلا عشان يخلفنا ويتولانا بي رحمته ودي نعمة كبيرة.
🖋رسالة أخيرة من أم قصي: أتمنى السودان الحلم بيهو قصي ورفاقه وطلعوا عشانه،
لازم نصفي النية ونقدم المصلحة العامة على الخاصة، لأنو بلدنا بي خيراتها.