سودان فيرست- محمد الأقرع
الفيتوري.. من عمق الثورة إن لم يكن من صناعها، خرج ذلك الصوت حاملاً معه أشعاراً وهاجة وخواطر زهو تبشر بالصبح والنور وتلعن الظلام ما استطاعت.. حين طل محمد مفتاح الفيتوري، على عوالم الأدب والحقيقة أحدث انقلاباً ضخماً في رسم الصور والأخيلة ودقة الوصف، انقلاباً حتى على الشكل النظمي، فهو أحد رواد مدرسة الشعر العربي الحديث غير المنضبط بحور العروض وموازين القوافي، ينثر شعراً حراً مع الاحتفاظ بجرس موسيقى خاصة وجاذبة.
طوّع الفيتوري القوافي لخدمة أغراض محددة عنده انصبت جلها إن لم تكن كلها في رفض الظلم، فهو يرى أن الشعر ليس وظيفة، وبالتالي ليس للشاعر وظيفة، بل له رسالة هي في مجملها رؤية جمالية قادرة على التعبير عن ذاتها وموقف واعٍ من أحداث الكون، ورغبة في التقدم تجاه المستقبل، وعن الحداثة المطلوبة برأيه بأنها ليست تجريباً خارجاً على اللغة وشكل القصيدة، إنما هي ما يتعدى اللعب بالألفاظ والعبارات ظاهرياً إلى إندماج في التجربة ووعي لها، فالحداثة المطلوبة هي تلك التي تهد مفاهيم الخنوع والذل على كل الصعد لتبني عالماً يافعاً ربيعياً أكثر جمالاً وإشراقاً في المفردات والأدوات.
أما إطلالة الفيتوري في عوالم الحياة عموماً كما تحكي سيرته الذاتية، كانت في عام 1936 بمدينة الجنينة غرب السودان بعد ذلك انتقل مع أسرته إلى الإسكندرية ودرس بمعهدها الديني بالإسكندرية قبل الانتقال إلى القاهرة وتخرج في كلية العلوم بالأزهر الشريف، وتشير سيرته أيضاً أنه عمل محرراً أدبياً بالصحف السودانية والمصرية واللبنانية وعين خبيراً إعلامياً بالجامعة العربية 1968- 1970 تبنته الجماهيرية الليبية وأصدرت له جواز سفر ليبي بعد أن انتزع منه الجواز والجنسية السودانية بقرار من الرئيس جعفر نميري عقب موقف من انقلاب (هاشم العطا) وتنفيذ الإعدام في قادة الحزب الشيوعي، عمل تحت الراية الأممية لصاحبها معمر القذافي مستشاراً ثقافياً في السفارة الليبية بإيطاليا، شغل منصب مستشار وسفير في السفارة الليبية بـ(بيروت) ثم مستشاراً سياسياً وإعلامياً بسفارة ليبيا بالمغرب، قدم الفيتوري عددا من الدواوين الشعرية التي وجدت رواجاً واسعاً وشغلت الصحف والملاحق الثقافية العربية، وأبرز تلك المنجزات (أغاني أفريقيا، عاشق من أفريقيا، اذكريني يا أفريقيا، معزوفة لدرويش متجول، أقوال شاهد إثبات، ثورة عمر المختار ….الخ)، وآخر إصدارته مجموعة شعرية جاءت بعنوان (عريان يرقص في الشمس)، الذي كتب مقدمته الأديب العربي منصور الرحباني قائلاً: (يعود إلينا الفيتوري ـ كما عرفناه ـ منذ ما قبل خمسين عاماً، منذ إطلالته في أغاني أفريقيا، وهو كائن مستوحش يعيش في عوالمه الداخلية، تلك العوالم اللا مرئية والشديدة الغموض، والتي قد لا يدركها هو بنفسه، رغم أنها تعيش فيه، وتنبع منه، وتشكل رؤياه في تصورات الكون من حوله).
يقول الفيتوري في إحدى قصائد الديوان….
ابتسم للحضور ابتسم للغياب
ابتسم للبكاء ابتسم للعذاب
ابتسم للجنون ابتسم للخراب
ابتسم للغزاة وهم يقبلون
للعبيد الطغاة وهم يزحفون
للطغاة العبيد وهم يبطشون
ابتسم غضباً
ابتسم لهباً
إن حزنك أكبر منك
وأعمق مما يرى الميتون
يمتلك الفيتوري قدرة إدهاش وصفي وفلسفية غريبة من خلال رسمه صوراً شعرية في غاية الدقة والجد والصعوبة، فتجده مثلاً يوصف لحظة التقائه بالمحبوب بأنه حدق بلا وجه ورقص بلا أرجل حيث قال….
في حضرة من أهوى
عبثت بي الأشواق
حدقت بلا وجه ورقصت بلا ساق
وزاحمت براياتي وطبولي الآفاق
عشقاً يفني عشقاً وفناي استغراق
مملوكي لكني سلطان العشاق
أفريقيا والتصوف…!!
قضايا أفريقيا شغلت الفيتوري بصورة كبيرة فلا تجد قصيدة خالية من إشارات دالة عليها وعلى أوجاعها، حتى إن بعض النقاد وصف أفريقيا لديه الحبيبة والأم والأرض والناس، وهي الوطن والمعتقد، وهي أيضاً الصوت واللون والرائحة والجمال، هي الأمل والألم، والمبتدأ والمنتهى وإحساس ووجدان والهوى والهوية، الفيتوري نفسه كان يقول (أفريقيا تعني بالنسبة لي المنابع الأساسية التي لم يكن لي أن أكون لولا ارتطامها بي، وتدفقها الدائم في عنقي وعروقي، لقد كانت أشبه بنبع تفجر فجأةً في أعماق الأرض، لم يكن لديّ أي وعي سياسي أو حتى اجتماعي، فجأةً وأنا أبحث عن ذاتي عثرت على جوهرة العذاب الأفريقي المندسة داخلي، وفجأةً وجدتني أغني مأساة التاريخ الإنساني، تحوّلت الكلمات في داخلي إلى هذه القطرات المدموغة بعذابات الآخرين، وأنا مجرد صوت عربي عبرت من خلاله عن تصورات وأحزان الشعوب السوداء. وعندما أصدرت أغاني أفريقيا كان ذلك عام 1955، وكنت حينذاك طالباً بالسنة الأولى بكلية دار العلوم، وأُقيم لي حفل بالكلية تحدث فيه الأساتذة وعميد الكلية عن ظهوري كشاعر بين طلاب الجامعة). والحديث عن أفريقيا في تلك الأوقات، بل وما زال لا ينفصل عن الحرية والثورة التي مثلت الغاية التي يبشر بها شعر الفيتوري مثل قصيدة الحصاد الأفريقي التي أصبحت إحدى الأغنيات الشهيرة التي تغنّى بها الفنان محمد وردي احتفالاً بثورة أكتوبر وتقول…..
أصبح الصبح وها نحن على البُعد التقينا
والتقى جيل البطولات بجيل التضحيات
والتقى كل شهيدٍ قهر الظلمات
بشهيدٍ لم يزل يسقى بذور الذكريات
أبداً ما هنت يا أفريقيا علينا
بالذى أصبح شمساً سطعت ملء يدينـا
وشـذى تعدو به الريح وتختال الهوينى
البعد الصوفي كان محسوسا أيضاً في النفس الشعري لدى الفيتوري، فوالده صاحب (سجادة) الطريقة العروسية، لكنه أيضاً حمل رؤية فلسفية ذات أبعاد جديدة في الفكر الصوفي، فقد كان يقول: (إن لجوئي إلى الصوفية ليس لجوءاً ثقافياً أو فلسفياً أو فنياً لمجرد البحث عن أفق جديد، إنّ صوفية الشاعر أو شاعرية الصوفي، الذي أتكلم عنه موقف إنساني إؤجابي واع مدرك، وليس موقف الدرويش المنجذب إلى مجموعة من الأفكار المشوشة، والأحاسيس التجريدية العمياء، إنه الصوفي الثوري، وليس أبداً ذلك الصوفي التقليدي المتهالك المهزوم، وقد عبرت عن الظاهرة الصوفية، كما أراها، من خلال مجموعتي الشعرية.. معزوفة لدرويش متجول).
أخيراً ….!!
عموماً، الحديث عن الفيتوري يفتح العديد من الأبواب فهي تجربة فيلسوف شاعر وإنسان قدم منتوجا إبداعيا ضخما يستحيل شموله في هذه المساحة وهو كما يقول….
لن تُبْصرْنا بمآقٍ غير مآقينا
لن تَعْرِفْنا
ما لم نجذبك فَتَعْرِفَنا
وتكاشفنَا
أدنى ما فينا قد يعلُونا يا ياقوتْ
فكن الأدنى
تكن الأعلى فينا.