الخرطوم- سودان فيرست
يتحدّث الكثير من المُبدعين، عن غزارة إنتاج أعمال أدبية تغزو المكتبات والأستديوهات في مختلف المجالات الفنية والفكرية، وبوتيرة مستمرة دون وجود تفاعل ومتابعة تُذكر من المتلقي السوداني (القارئ.. المستمع والمشاهد)، مما يجعلها رهينة أو حبيسة في الأدراج وعاجزة عن إحداث إضافات معرفية تُحدث أثراً في الحياة العامة.
ويقول بعضهم، بملء الفم إنّ أكبر الأزمات التي تواجه العمل الفني تتمثل في المتلقي ذاته، الذي كف عن الاطلاع ومداولة الأعمال الجديدة. ولعل هذا العزوف ـ إن صح ـ وتعليق مسألة ركود الساحة الفنية على عنق المتلقي السوداني، اتهام خطير يستوجب التحري والتحقيق، كما يتطلّب أن يثبت بالبحث في الأسباب التي تفند مثلاً العبارة القديمة الشهيرة “الخرطوم تقرأ” وغيرها ممّا يتّصف بالذائقة السلمية والنهمة التي كان يتعاطى بها السودانيون مع منتجات الفنون والثقافة.
أزمة متلقي:
الكل قد يقر بأن إنتاج الأعمال الأدبية مقبول إلى حد ما، ولكن ثمة اختلافات حول مسألة الركود بفعل المتلقي، حيث تنقسم الآراء إلى طائفتين، الأولى تلقي باللائمة عليه وتشير إلى هروبه ونفوره من كل ما هو ثقافي، وفي نفس الوقت تعزي هذا الطائفة أسباب ذلك إلى انشغاله بالمعايش الاقتصادية وضنك الحياة الذي يواجهه.
وفي هذا السياق، يقول بعض المراقبين أن المتلقي السوداني يشكل ضلعاً كبيراً في أزمة ركود الأعمال الأدبية، ففي ما يلي الجانب الغنائي مثلاً تشكلت لديه حالة (تسقيف) على أسماء بعينها (الحقيبة، وردي، ود اللمين، الحوت ….الخ) جعلته يرفض كل ما هو جديد دون الاستماع إليه، فضلاً عن موجة استلاب أصابته وجعلته أكثر اهتماماً بثقافات أخرى، أما في الجانب الآخر المتعلق بالكتابة والتدوين، يرون أن السودان ما زال يعاني تفشي الأمية بنسبة مرتفعة، التي بدورها تحد من حركة عملية القراءة بالاضافة إلى حالة انكماش وانحصار على الثقافة الشفاهية المكرورة.
وهؤلاء يؤكدون كذلك أن المكتبات الآن غنية بكل ما هو دسم ومفيد، ولكن من يقنع القارئ ويشير إلى أن المعالجات إن وُجدت يجب أن تبدأ بالمتلقي لأنه الضلع الأهم.
أزمة مبدع:
الطائفة الأخرى لا تتفق مع الرأي السابق، على الرغم من أنها تؤمن بدرجة ما على حالة ركود الأعمال الأدبية في السودان، لكن تعزي الأمر إلى المبدعين أنفسهم، فهم كما يقولون لم يتعاطعوا مع مزاجية المتلقي لكي يتفاعل معهم، وقدموا أعمالا إما تسبح في أطر مختلفة وبعيدا عن قضاياهم الراهنة، أو قاموا بإنتاج أشياء مفبركة وناقصة وملفقة وخجولة وتشي بأنصاف حقائق في وجه متلقي يعرف كل الحقائق.
وانطلاقاً من وجهة نظر مماثلة يقول الكاتب عبد الله عبد الصمد: “المشكلة الأساسية تكمن في المبدع السوداني، الذي ظل لفترة يسبح بعيدا برغبته أو رغماً عنه، ولا يمكن بأي حال من الأحوال تعليق تلك الإشكالية على المتلقي السوداني الذي ما زال كما أعتقد شفوقاً بالاطلاع والمعرفة”، ويضيف عبد الصمد: “لنكن أكثر عدلاً، الساحة الغنائية مثلاً ضربتها موجة هبوط غريب طال حتى كبار الفنانين، لم يترك المتلقي الاستماع، وإنما حدثت عملية إزاحة وزحف تجاه الأغنيات العربية والأجنبية، أما في الشأن الكتابي توجد مشكلات متعلقة بالنشر والتوزيع، كما يوجد الكثير من الأعمال غير الجادة، فضلاً عن جُزء من المُنتجات الأدبية الجديدة يُمكن تصنيفها تحت خانة المكرر والمُتشابهة”، وتابع عبد الصمد: “أضم صوتي في هذه النقطة لصوت الأديب العربي نزار قباني، الذي قال على ما أذكر ـ الشرط الأساسي في كل كتابة جديدة هو الشرط الانقلابي، وهو شرط لا يمكن التساهُل فيه أو المساومة عليه، وبغير هذا الشرط تغدو الكتابة تأليفاً لما سبق تأليفه، وشرحاً لما انتهى شرحه، ومعرفة بما سبق معرفته ـ، وأردف: “وأنا على يقين بأن الشرط آنفاً انتفى تماماً وأصبح الكل يدور في فلكٍ واحدٍ، لذلك هرب المتلقي”.
أخيراً:
ما بين جدل أزمة المتلقي والمبدع، يُلمح بعضهم إلى أن ثمة أزمة أخرى، وهي أزمة الدولة التي مازالت حتى الآن وبعد الثورة لا تنظر للفنون والثقافة بطريقة صحيحة توفر على ضوئها الدعم وإزالة المشكلات المرتبطة بدعم المبدعين وتسهيل وصول الأعمال الأدبية وإبعاد متاريس الرقابة السابقة.