سودان فيرست– عزمي عبد الرازق
ثمة لقمان أحمد واحد في هذا الكون الرحيب، ولا أحدٌ سواه بإمكانه خلع ربطة العُنق وهجر حياة الدعة والنجومية والعودة إلى جذوره في دارفور، حيث وُلد هنالك في مكان انفتحت فيه فوهات الجحيم، وتسيّدته طبول الحرب لعُقُودٍ طويلة، حتى أن أحداً لم يعد يحصي الضحايا من كثرتهم، وأصبح القتال وثأرات القبائل ضرباً من العادة، لكن لقمان والذي أصبح مديراً لمكتب الـ”بي بي سي” في واشنطن، لم يرضَ على نفسه الفرجة على الدمار وحصالة الأراح، فبدأ من رحلة الآمال والدموع نسج خيوط الأمل والنور.
عندما عاد لقمان في إحدى إجازاته إلى قرية (الملم) بدارفور، وجدها قطعة من البؤس، التهمت ألسنة الحريق المدارس والمَشافي والبيوت، وكان شيء عالقاً في ذاكرته، قبل أن ينزح منها الأهالى إلى مُعسكرات بعيدة.
لم يَكتفِ لقمان بذرف الدموع والوقوف على الأطلال، وإنّما أطلق مُبادرة إنسانية أسماها (عودة الروح)، وبدأ في التّواصُل مع أبناء المنطقة بالخارج، وحثّهم على استقطاب الدعم، والمُشاركة الفعّالة في كنس آثار الحرب وبذر الأمل، وحَثّ الأهالي للعودة، وظل يعمل بدأبٍ تحت لافتة منظمة الملم للسلام والتنمية، دون أن يصيبه اليأس أو يخور منه العزم، وكان يأمل حتى تثمر تلك الجُهُود أن تشهد المنطقة حالة من التعافي الاجتماعي، وظل يؤمن بأن إيقاف الحرب هو الهدف الأول، وقبل كل شيءٍ القضاء على أسبابها، المتمثلة في الظلم والتهميش والنعرات العصبية وانتشار السلاح.
هدأت الحرب نسبياً بعد جُهُود رسمية وأخرى شعبية، ما ساعد لقمان وإخوته على العمل الميداني. وقال لقمان وهو يستعيد حواراً مع طفل من قُرى دارفور التي تأثّرت بالحرب: “صحيح جايين تعمِّروا الدار” هكذا حياني طفل وشقيقته يرعيان إِبلا داخل قرية “تربا” أحد أجنحة قرية (الملم)، والتي أحرقتها الحرب عام 2003. قلت لهما “نعم بدأنا تعميرها اليوم وسيعود إليها أهلها”. سألني “حتبنوا مدرسة ؟” قلت له نعم فقال لي مترجياً “أنا وأختي دايرين نقرأ فيها” فوعدته بأن يكونا من تلاميذها إذا لم يرتحلا عن مُحيط قرية “تربا” حسب حركة وترحال ذويه الرُّحّل.
ووصف لقمان، المشهد على الأرض قائلاً: “برغم حبي ومعرفتي لــ”تربا” بسنين قبل ميلاد الطفلين، إلا أنّهما أخذاني في جولة داخل القرية بدءاً بالمدرسة المُحطّمة ومُروراً بمراح إبلهم وحتى مورد الماء داخل وادي القرية الذي يجري حدّاً يفصل ولاية جنوب دارفور عن شمالها. وأضاف أنّه “بالرغم من ذكريات الحرب الأليمة غطاني تفاؤل كبير ببزوغ مستقبل أفضل ربما يُتيح حياة أفضل لسكان المنطقة مزارعين ورُحّل”.
من المُهم الإشارة إلى لقمان ظَلّ يعمل في صمتٍ طيلة خمس سنوات ماضية، وأراد أن تكون مُبادرته شعبية خالصة، وسعى في المرحلة الأولى إلى بناء القُرى الحضرية في “الملم” وشمال نيالا عاصمة غرب دارفور ضمن برنامج عودة الروح، علاةً على أنه سخّر إمكانَاته الذاتية واستثمر علاقته برجال الأعمال ومنظمات المجتمع المدني وشركاء مؤسسات محلية في تطوير الزراعة وتشيد المدارس وحفر الآبار ودعم الإنتاج والأعمال النسوية.
ولعلّ أكثر ما ساعد الرجل، تواضُعه الكبير والمحبة التي يُحظى بها، فتراه يجلس وسط عماته وخالته وكل نساء الفريق في حلقات عامرة بالدفء العائلي الجميل، وهن يسكبن العطر على رأسه، كأنّه عريس كل المواسم، بل هو كذلك بالفعل، فلا شيء يُوازي جهده الإنساني والخيري، كما روى عددٌ من الصحفيين الناشطين، الذي ألهمهم جسارة لقمان.
الكثير من الصور التي تغص بها جدارية صفحته على “فيسبوك”، كل صورة تحكي قصة مُثيرة وتختصر زحمة من التفاصيل، وقد حرص لقمان على التوثيق لمشوار بناء دارفور خطوة إثر خطوة، وهو يشق طريقه وسط الخيران والسُّهول والمَزَارع، التي بدأت ترتدي حُلة مُخضرة، كما انتصبت المدارس من جديد وامتلأت الفصول والخلاوي بطلاب العلم.
ولعل عودته من واشنطن رغم الفوارق الزمنية تشبه عودة أهله، حيث كتب في العام 2017: في التاسع عشر من ديسمبر توجّهت من واشنطن قاصداً قرية “تربا”، غير أنّ أهلي الذين أُخرجوا منها قبل أربعة عشر عاماً سبقوني وعادوا إليها في العشرين من ديسمبر. وأضاف لقمان “لم تكن رحلتهم بين الرحيل القسري وعودة الروح قصيرة، فقد ظلوا يسيرون بأشواقهم وآمالهم أربعة عشر عاماً ليقطعوا مسافة لا تقل عن مائة ميل للعودة إلى أرض الجذور”، بينما قطعت سبعة آلاف ميل من واشنطن كي أكون معهم في نصف يوم فقط أي إثنتي عشرة ساعة فقط والفارق أننا نعيش في عالمين مختلفين في دنيا غريبة.
بداية العام الماضي أعلنت منظمة الملم ما أسمته مبادرة البيت الكبير، وهي عبارة عن جلسات استماع وتعافٍ، حيث يجتمع سكان كل قرية أو مدينة صغيرة في مكان واحد بهدف الحديث والاستماع “نطرح لهم برامج السلام والتنمية ونستمع إلى آرائهم”، ثم نخلص جميعاً كقواعد إلى نتائج نحتكم إليها كخارطة طريق على المديين القريب والبعيد، وفقاً للقمان الذي أضاف “على ذلك النهج يلوح في الأفق الآن ما يمكن أن نطلق عليه مُجتمع الملم، وهو مُجتمع بدأ يتشكّل على نحو جديد، بناء الإنسان قبل بناء الحج، في قرى كيلا وتربا وأم داشو ومقبولة وشاواية ومناطق أخرى مجاورة مثل أبو حمرة ويارا و دوبو في شمال دارفور”.
صحيح توهجت قصة لقمان كرجل سوداني مبذول لأهله، يقاتل من أجل الحياة، ولم يستسلم للظروف القاهرة، لكن إنسانيته وإيمانه بالقضايا العادلة تجلى أكثر عندما ذرف الدموع ودخل في نوبة بكاء وهو ينقل للعالم خبر إعلان الرئيس الأمريكي دون ترمب القدس عاصمة لإسرائيل. وقد أدرك أن الحياد الإعلامي غير مطلوب في مثل هذه اللحظات، لأنّه يساوي بين الجلاد والضحية.
الآن يعود لقمان إلى إدارة الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، كتجربة جديدة عليه، وعليها بالمُقابل، ربما للخبرات النوعية المتراكمة في مشواره الثر، وقد ذكر في أول بشرياته أنه سوف يسعى إلى استقطاب وتوظيف الدعم الوطني ليتمكن بمواءمة الدعم الداخلي والخارجي من بناء موسسة إعلامية عملاقة على ضفة نهر النيل، وذلك حتى يكون لجيلهم شرف التأسيس الثاني للإعلام السوداني، قائلاً “هذه سانحة أحيي فيها الجيل الذي تولى مهمة التأسيس الأول للإعلام السوداني والذي ظل رائداً لعقود من الزمن خاصة مع بلوغ إذاعة أم درمان ثمانين عاماً وتلفزيون السودان ثمانية وخمسين عاماً”.
لكن من المعروف أن الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون السودان أعيت الطبيب المداويا، مع كل مُحاولات التطبيب وإعادة الهيكلة، وبدا كما لو أنّ لعنة أصابتها منذ عُقُود طويلة، فهل سيفلح لقمان في مهمته، أم أنّه ينطلق من محض رؤيته طوباوية؟ يصعب الإجابة على هذا السؤال المُهم والخطير، لجهة أنّ معضلة التمويل هي أكبر معضلة، حيث يحتاج الإعلام إلى رصيد من الأموال والخبرات والدعم الحكومي المُستمر، غير أنّ ذلك الدعم الحكومي تحديداً في ظل استقلالية جهازي الإذاعة والتلفزيون تبدو غير منطقية في دول العالم الثالث، وتحديداً في السودان الذي أول ما تسعى اليها الحكومات الجديدة، سواء كانت عسكرية أو مدنية هو السيطرة على القنوات الرسمية، وتسخيرها لعرض منجزاتها الإدارية.
خُطة لقمان الذي سوف ينطلق منها تعتمد على شراكات خارجية، وعلى مواقيت زمنية أيضاً، فهو تحدث عن المائة يوم الأولى، والتي مضى فيها حتى الساعة أكثر من ثلاثة أسابيع، أشار فيها بوضوح على العمل على مسارين، الأول هو توظيف كل الإمكانات المُتاحة لتطوير الخدمة الماثلة في الجهازين على المستوى الإخباري والبرامجي على نحو يضمن سلاسة تدفق الأخبار والمعلومات ويترجم قيم الثورة والعهد الجديد وقضايا المرحلة الانتقالية، والآخر هو تقوية وتأهيل (الإنسان) عبر خلق بيئة مهنية جاذبة مُنصفة، دون أن يتجاهل الخبرات المحلية الماثلة، كما أشار بالمقابل إلى ضرورة متابعة وتحرير مُحتوى أدوات التواصُل الاجتماعي وخلق برامج تفاعلية توسِّع دائرة تغطية القضايا كَافّة التي تهم الناس. وهنا ثمة سؤال يصعب تجاهله، كيف سيتخلص لقمان من المتاريس القديمة المُتجذِّرة داخل جهازي التلفزيون والإذاعة؟ وقبل ذلك، هل سيبقى لفترة أطول حتى يجني ثمار غرسه، أم أنّ مصيره يرتبط فقط بالثقة التي يُحظى بها من قبل رئيس الوزراء ووزير الثقافة والإعلام، على نحوٍ خاص؟!