سنكات- آيات مبارك -السودان فرست
قبل يوم أو يومين من الخميس الأول في شهر رجب تقريباً، يأتي هؤلاء المريدون من كل فج عميق. تراهم مرأى العين يحملون متاعهم على بعض الأقمشة وأطفالهم على كتوفهم.. يأتون سيراً على الأقدام، والبعض منهم يأتي على ظهر الإبل، رجال يرتدون الزي التقليدي، جلباب وسروال أبيض مع صديري.. أما النسوة فيأتين من القرى البعيدة حاملات أطفالهن يرتدين ثياباً زاهية الألوان، وضفائرهن التي نظمت بالخرز الملون مُسترسلة تطلق رائحة العطور والزيوت النفاذة، فالكل يأتي بأجمل ما لديه، كانت يوم عيد، وفور وصول النسوة إلى هناك يقمن بزيارة الضريح وهن حافيات القدمين ويبدأن بإطلاق الزغاريد، ثم الدخول وقراءة الفاتحة وبعض من الابتهالات.
ويبدأ الرجال بتلاوة المدائح والأهازيج إحياءً لذكرى وفاة (أم المساكين) أو كما ينادونها بـ(الشريفة) فقط.
القيدومة طقس مُدهش
تسبق الحولية (قيدومة) يلتقي فيها الشباب من كل أنحاء الشرق، ويتبارون في طقس سنوي لـ(سباق الهجن)، يتهيأ له الشباب باكراً، فالكل هنا أتى ليلتمس قبساً من بركاتها، ط حتى تخفف عنهم عناء الحياة وتقيل عثراتهم.
أما داخل (التكية)، فالاستعدادات هنا تجرى على قدمٍ وساق، يعد الطعام في أوانٍ ضخمة جداً.. يطبخ فيها لحم الإبل، ويقدم مرقه مع الأرز والكسرة المجففة التي يبدأ العمل في صنعها قبل 3 أشهر من حلول الحولية، لتكفي جموع الزائرين الغفيرة، ويتم تقديمها في أطباق واسعة من الألمونيوم وبعض الأواني الصغيرة المصنوعة من الطلس.
داخل منزل الشريفة
كل هذا لم يصرفنا عن الانتباه إلى الطراز القديم الذي بني به منزلها ومقتنياتها التي مازالت تقاوم ردحات الزمان، ومازالت غرفتها من الجالوص منتصبة كالحصن المقدس رغم مرور الأعوام وتغيّر فصول السنة، ومتاعها الذي لا يتعدى بعض معينات قليلة على أداء الفرائض والتسابيح الليلية (إبريق من الماء) و(حجر للتيمم) ثم مجلس من (اللحاف) الأبيض وسرير متوسط من الخشب، زهدها في الحياة جعلها ترتدي الرخيص من الثياب، إضافةً إلى مكان مخصص ومفروش للصلاة وحذاء من الخشب كان يرتديه الناس قديماً، وبعض السيوف التي ورثتها من جدها.
في هذه الغرفة، كان يأتيها ذوو الحاجات والأغراض، ومن يلتمسون حل النزاعات، فكانت تقيم محكمة فردية تتصف بالعدل وترفض الهدايا والعطايا، تقابل الرجال من وراء حجاب.
بوابة سنكات
ربما لا يخطر على بال أحد أن يتخذ من هذا الوادي المنخفض مشكاة نور للعلم، تضئ جنبات تلك الجبال ذات السواد الشاحب، لكن ذلك لم يستعص على السيدة مريم الميرغنية أو (زهرة سنكات) التي أتى أهلوها من الجزيرة العربية في هجرات متتالية، والسيدة مريم هي ابنة السيد محمد هاشم بن ختم أهل العرفان السيد محمد عثمان الختم بن السيد الحسن (أبو جلابية) بن السيد محمد عثمان الميرغني.
وبعد وفاة زوجها، نهضت الشريفة مريم بأعباء الدعوة إلى الله وإرشاد المريدين في مناطق البحر الأحمر بشرق السودان، وكان لها مجالس خاصة بالنساء تذكرهن بالله، وتأمرهن بفعل الخيرات، وترشدهن إلى التمسك بالآداب المحمدية، وكان أقصى همّها هو تعليم النساء وتفقيههن في أمور دينهن، فأقامت المساجد والخلاوي فى كل من هيا وسنكات وجبيت وكمسانة وسلوم، فساهمت فى دعم المدرسة الثانوية المصرية، وفي قيام التعليم الأهلي ببورتسودان، وتجاوزت شهرتها السودان وشرقه لتصل إلى ما وراء الحدود، لما عرفت به من أعمال بر وخير وخدمة للمحتاجين، فقد استقبلها الملك فاروق عند ما ذهبت مستشفيةً إلى مصر، وقد شهد لها بذلك البروفيسور الأمريكي جون فول، حيث قال في رسالته لنيل درجة الدكتوراة: (وجد تعليم البنات في شرق السودان تأييداً حاراً من الشريفة مريم وأقنعت أهاليهن بإرسال بناتهم إلى مدرسة القابلات، كثيرون منهم انصاعوا لتوجيهاتها نسبة ليقينهم التام بحرصها عليهن)، وأوفدت أول فتاة من المنطقة وهى المغفور لها بإذن الله زينب عبد الله عمر لتكون أول زائرة صحية وقابلة تمارس المهنة بأسس علمية بدلاً من التقليدية.
أهل سنكات
إنّ غياب التدوين أو وجود كتاب بعينه مع وجود بعض التراتيل والمدائح، منح هؤلاء السكان الأصليين القدرة على التخيل والتأويل أكثر مما هو يستند على نصوص ثابتة. فالروايات الشفاهية هنا تسير على قدمين وتنمو كما الإنسان، لأنهم يعيشون على جلسات السمر الليلية والقفشات، فسكان هذه المنطقة فطنون وأذكياء، يحفهم اليقين التام بتلك السيدة الشريفة بالرغم مما يعتري خطواتهم الواجفة في تلك الطرقات والممرات الجبلية من أذى، لكنها رحمة السماء ويقينهم بصدق المنحى الديني والدنيوي، وبعيداً عن تلك الاختلافات الدينية، فهم يتمعتون بحرية المعتقدات وتنوعها وارتكازها على الممارسة الفردية والحياة الجماعية.
ممرات داخل الجبال
استطاعت هذه السيدة أن تمضي بعيداً بقوة وعزم لا يلين، فقد نحتت على تلك الصخور الصماء طرقاً وممرات حتى يمر من خلالها الدعاة والمريدون بين خلاويها في العديد من مناطق شرق السودان، إذ أنشأت عدداً من الخلاوي في كل من سنكات وجبيت وسواكن وتهاميم وغيرها من أنحاء تلال البحر الأحمر، وهذا ما جعل المريدين يأتون إليها من كل عام لتدبر سيرتها ومناقبها إحياءً لذكراها الكريمة.
آثارها في منطقة جبيت
والزائر لمنطقة جبيت الواقعة في شرق السودان، يرى الرضاء والطمأنينة قد حفرت على وجوه ساكني تلك المنطقة نتيجة لوجودهم وسط تلك المآذن والخلاوي، التي أنشأتها الشريفة مريم الميرغنية، ذلك المكان الذي اختارته هكذا مفتوحاً ما بين الأرض والسماء، وما بين الأصفر والأزرق حتى يصلح لممارسة طقوسهم الدينية.. وهكذا حدثتهم ذات مرة بأن هذا المسجد الذي يقع وسط الخلاء سيأتي عليه زمن يحتاج فيه الناس إلى الصلاة في الشارع من شدة الإزدحام.
الآن هنا وبعد مرور أكثر من قرن على تأسيس هذه المدينة، يمكن للزائر أن يستشعر كل حيواتها ونبضها على الطرقات.. فيبدو أن روحها مازالت تتجول في هذا المكان أو أنها تلك البركات التي تنفحها على أهلها فينة بعد الأخرى، ولا يزال قلبها يخفق بينهم، لذلك يمكن للزائر أن يتنسم طيبها وبركتها.
اغمض الشريفة مريم أعينها يوم الأربعاء أول ليلة من شهر رجب عام 1371هـ الموافق 1952م، وذلك بمدينة بورتسودان، ثم نقل جثمانها الطاهر إلى مقرها الأخير بسنكات لتدفن بقرب مسجدها ومحل تلاوة القرآن الكريم، وما أصبح الصبح إلا وسرى الخبر على الأرجاء كمهب الريح العاصف، وقدم الناس من كل فج من القرى والمدن والجهات البعيدة لتشيّعها ملايين القلوب المحبة، ثم دُفنت بمسجدها كما أوصت.