سودان فيرست ــ تسنيم عبد السيد
يُعتبر اعتصام القيادة العامة في السودان المُمتد منذ السادس من أبريل وحتى الثالث من يونيو 2019م ثاني أكبر ملحمة وطنية بعد الاستقلال 1956م، ذاك الموقف المشهود وضع حدّاً لنضال استمر لسنوات لإسقاط حكومة الإنقاذ، التي جثمت على صدور السودانيين وأنهكتهم لمدى ثلاثين عاماً، تلك الأيام التي اختلطت فيها دموع الفرح والانتصار بدماء الغدر لن تُمحى من ذاكرة السودانيين وستبقى علامة فارقة في صفحات التاريخ السوداني، لأنّها استطاعت أن تُحيي جوانب إنسانية مُهمّة ميّزت الإنسان السوداني على مر العصور، فتجلت تلك المظاهر السمحة في ميدان الاعتصام والكل هناك يبذل الخير لغيره دون مقابل، وانحنوا جميعهم ليرتفع اسم السودان وينعم أهله بالخير والسلام.
نحو ستين يوماً قضاها ثوار السودان أمام مقر القيادة العامة للجيش في الخرطوم، وتحولت تلك المساحة المحدودة إلى سودانٍ مُصغّرٍ يسع الجميع لا فرق فيه بين غني وفقير، أبيض أو أسود، الكل هناك تدثّر بإزار الثورة فكان خُلُقه القيم النبيلة والأخلاق الفاضلة. ومن أهم الخصال التي عُرف بها المُعتصمون تدافعهم في عمل الخير وبذل المعروف، يجمعهم هدف واحد وهو إزالة الظلم والفساد عن عاتق البسطاء، وأن ينعم أهلهم بالأمن والرخاء، ومن جميلها كذلك أن ترى شباباً في مقتبل العمر يقودون التغيير ويتقدّمون الصفوف لا يخافون التهديد ولا الوعيد، يقدمون كل نفيس ويبذلون كل غالٍ من أجل أن ينعم غيرهم بالراحة، يقفون ساعات النهار الطوال وهم يدافعون عن قضيتهم ويناضلون من أجلها.
ومن أروع مظاهر البذل في تلك الأيام، التسابق للعطاء، وأن كل نقص يكتمل بمجرد النداء له، كلٌٌ يريد أن يقدم ما عنده، كلٌٌ يريد أن يكون هو المبادر المتقدم، هو السباق المعطاء في مشهد يحكي الكرم السوداني الفياض والنفس السودانية الأصيلة.
ومن صور البذل والإقدام التي لا تزال عالقة في الذاكرة شباباً يحملون كيساً كبيراً يجمعون فيه المال لإعانة إخوانهم ممن لا يملكون ما يبلغون به ديارهم، والجميل أنهم يجمعونها ممن حولهم في ساحة الاعتصام يرددون عبارة سودانية (كان عندك خُت.. ما عندك شيل) بمعنى أنك إن كنت محتاجاً للمال فخذ من هنا، وإن كانت لديك سعة من مال فأبذله لغيرك هنا أيضاً، والشباب يتدافعون لبذله لغيرهم، كذلك من الخصال المشرقة التي برزت سقي الماء، فسارع بعض الشباب لجمع تبرعات وشراء كميات كبيرة من مياه الصحة وتوزيعها على الناس، وبعضهم تبرّعوا بها من مراكز التسوق الخاصة بهم، راسمين بذلك أروع صورة للبذل والعطاء.
تلك الأيام التي قضاها الثوار وهم مُعتصمون أمام القيادة العامة من حُسن الطالع أن نصفها كان شهر رمضان المبارك، والشعب السوداني محب للدين بفطرته، محب لأهله وإن كان قد حكم زماناً من طغمة لعبت باسم الدين وشوّهت صورته وتكسبت به مصالح شخصية، إلا أن وعيهم وإدراكهم أن ذلك منافٍ لدين الله الحق، ظهر ذلك في هتافاتهم (الدين بقول الزول إن شاف غلط ينكر) وهو ما جاء به الشرع الحنيف، فكانت مشاهد الإفطارات وإقامة الشعائر الدينية بأرض الاعتصام في تلك الأيام صورة أخرى من الإشراق والبياض الناصع.
من المؤكّد أنّ الثورة السودانية جاءت فريدة ومختلفة، وأن اعتصام القيادة العامة أظهر وجهاً آخر للإنسان السوداني ينبغي البحث عنه والرهان عليه، وفي ذلك تقول الباحثة الاجتماعية ثريا محمد إبراهيم لـ(سودان فيرست) إنّ الشباب في ميدان الاعتصام استلهموا قيماً اجتماعية سودانية راسخة، وإن الثورة السودانية أخرجت من المجتمع أفضل ما فيه.
وتقول إن الصورة التي رسمها الشبان والشابات لأنفسهم مغايرة لصورة سابقة، حاول البعض في فترة من الفترات رسمها، تشير إلى سطحية واهتمام بشؤون هامشية، لكنّهم وطوال أشهر أثبتوا العكس. وشدد ثريا محمد إبراهيم على أنّ مشاركة الشباب في التظاهرات والاحتجاجات خلقت وعياً بينهم حول أهميّة العمل الجماعي، خصوصاً أنّهم كانوا يواجهون خطراً واحداً (الضرب أو الاعتقال أو القتل) منذ بداية الحراك الثوري. وتابعت: (لذا أدركوا في هذه المدّة أن التضامن مطلوب، فنظموا أنفسهم لتوفير الحماية لأنفسهم في داخل الاعتصام من خلال نقاط أمنية أقاموها، وتشاركوا في جمع التبرّعات المالية وإعداد الطعام، وكذلك في تأديتهم طقوس عبادتهم). وتشير د. ثريا محمد إبراهيم إلى أن محيط قيادة الجيش السوداني تحوّل بالتالي إلى منزل كبير يشعر كلّ فرد فيه بمسؤولية لا بدّ من أن يضطلع بها، مشددة على أن ما حدث في الاعتصام ولّد سلوكاً إيجابياً حتى في الشارع السوداني العام. وتؤكد على أهمية المحافظة لذلك السلوك حتى بعد فضّ الاعتصام وعدم التفريط فيه، حتى يكون ركيزة لثورة اجتماعية بعد نجاح الثورة السياسية.
يُذكر أنّ اعتصام القيادة العامة الذي استمر منذ السادس من أبريل، تم إنهاؤه قسراً وتم طي تلك الأيام البيضاء بأسود يوم في تاريخ السودان الثالث من يونيو الموافق التاسع والعشرين من رمضان، يوم أن فُض الاعتصام أو ما عُر ف اكثر باسم مجزرة القيادة العامة، وما حصل في يوم الاثنين الموافق الثالث من يونيو 2019م، مازال السودانيون تحت صدمته إلى يوم الناس هذا، فطعم الغدر أنساهم لذة انتشار الثورة وإزاحة حكومة عمر البشير التي استعصت سنيناً طويلة، ما حدث في الثالث من يونيو اقتحمت قوات ترتدي زياً عسكرياً مقرّ الاعتصام مُستعملةً الأسلحة والغاز المسيل للدموع لتفريق المتظاهرين السلميين، مما تسبّبَ في مقتل أكثر من (100) متظاهر ومئات الجرحى، لا تزال التحقيقات جارية لكشف الجُناة وإدانة المُتورِّطين في تلك الأحداث.