سودان فيرست ـــ الطيب إبراهيم
على مدى شهرين كاملين، كان السودانيون يتسمّرون أمام صفحة وزارة الصحة الاتحادية على (فيسبوك)، كل مساء أو كل نهارية، كيفما اتفق، ليتلقّفوا خبر الإصابات الجديدة بـ(كورونا)، بطريقة أشبه بمتابعة المسلسلات، وبدت لحد كبير الإحصائية الجديدة جزءاً من تفاصيل الحياة اليومية للسودانيين، لدرجة أنه أحياناً في حال تتأخّر وزارة الصحة عن إعلانها، تنطلق الأسئلة حول الأسباب، ويبدأ الناس في حالة لهث وترقب، أشبه بمن ينتظر كوب قهوة..! حمى الشغف بمُتابعة الحالات الجديدة، دفعت بصفحة وزارة الصحة إلى أن تكون الصفحة الرسمية الأولى من حيث عدد المُتابعين، أكبر حتى من متابعي صفحة المجلس السيادي ومجلس الوزراء مجتمعين. منذ تصاعُد حالات الإصابة واقترابها من الثلاثة آلاف، بدأ الشغف بالمتابعة يفتر قليلاً قليلاً، حتى إنه لم يعد هناك من يُتابع الإحصاءات الجديدة، إلا الصحفيين والإعلاميين المعنيين بالأمر، ومتبقي الناس كانوا يتلقّون أخبار إحصاءات (كورونا) مثلها مثل غيرها من بقية الأخبار، حيث لم تعد الإحصائية تثير الشغف، وخمدت لحد كبير حالة اللهث وراء المتابعة، لدرجة أنك لو أجريت استطلاعاً لمعرفة عدد الإصابات في السودان بصورة دقيقة، فإن أقل من (30%) يملك الإجابة الحقيقية، بينما في وقت سابق أغلب الشعب السوداني كان يعرف بدقة عدد المصابين والوفيات وحالات الشفاء. حالة الفتور في تلقِّي أخبار (كورونا) وصلت حتى وزارة الصحة، التي لم تعد تلتزم بإعلان تقرير الحالات بصورة يومية كما كان يحدث سابقاً، وبينما يرى خبراء نفسيون، أن تجاهُل متابعة أخبار الأمراض أول مؤشر للشفاء، يرى آخرون أن تجاهل المرض لا يعني اختفاؤه، لكن في كل الأحوال فإن تلاشي حالة الشغف توحي بأنّ الناس وضعت المرض ضمن الأمور الاعتيادية التي لم تعد تثير الانتباه، حتى إنه ربما يأتي يوم ويصبح مريض (كورونا) مثله مثل مريض الملاريا. في العادة، فإنّ الإنسان، وفي إطار استمرار الحياة، يتعامل عادةً بحساسية مفرطة وبولع كبيرين مع أي مستجدات، خصوصاً إذا كان لديها خطر على حياته، لكنه مع مرور الأيام يتأقلم مع الوضع ويؤلف مساراً ثالثاً ليتعايش مع الحياة في ظل وجود الخطر نفسه.
الأمر ذاته، هو ما عبّرت عنه منظمة الصحة العالمية، التي دعت العالم للتعايش مع الوباء وممارسة الحياة بشكل طبيعي، من هذه الزاوية تحديداً يمكن فهم تلاشي شغف السودانيين بالوباء. الناظر لخارطة تصاعُد الوباء بالسودان، يلاحظ أنه كلما ازدادت حالات الإصابة كلما قلُ الشغف بمتابعة أخباره، وبينما كانت (كورونا) مرضاً غامضاً وبعيداً في فبراير الماضي، كان السودانيون أكثر رعباً به، وأكثر تخوفاً من وصوله للسودان، وعندما سجّلت البلاد أول حالة إصابة في مارس الماضي، كان السودانيون يعرفون حتى أدق التفاصيل عن أول حالة إصابة وأول حالة وفاة، الأمر الآن يشير إلى ان (كورونا) خرجت تماماً من دائرة الاهتمام الشعبي وصارت شأناً حكومياً تتداول أخباره في اجتماعات رسمية جنباً إلى جنب مع البلح والفول السوداني..! التجاهل الشعبي لهذا الوباء له آثار سلبية قاسية بحسب مراقبين، لكونه سيدمر تماماً الجهود الحكومية في مكافحة الوباء، وسيساعد في تفشي المرض مع تراخي التدابير الصحية، تلك التي من المُفترض ان يقوم بها الشعب، والمتمثلة في التباعُد الاجتماعي وغسل الأيدي جيداً.
بالمقابل، فإنّ علماء نفسيين يشيرون إلى آثار إيجابية لهذا التجاهُل، بما يساعد على نحو ما في زيادة حالات التعافي، فالرعب الذي يتفجّر عادةً عند سماع إصابة شخص ما بـ(كورونا) لم يعد موجوداً، وهو أمرٌ مهمٌ من ناحية نفسية في طمأنة المريض ما يساعد في حالات الشفاء، فقياساً على أمراض أخرى، فإنّ الملاريا والالتهابات العادية على سبيل المثال تفتك بالبشر أكثر مما تفعله (كورونا)، ورغم خطورة الملاريا والالتهابات العادية، فإنّ العقل الجمعي تعاطى مع الملاريا كأمر واقع لا يثير المخاوف، وهو الاتّجاه نفسه الذي يمضي نحوه فيروس (كورونا)، وهو أمر شديد الأهمية بحسب خبراء نفسيين، لأنّ مصاب (كورونا) بسبب الزخم الكبير والاهتمام المفرط بالمرض، ترسّخت داخله فرضية ان (كورونا) مرض قاتل، وهى نقطة تؤخر كثيراً حالات الشفاء وربما تؤدي للموت رعباً. بعد مضي شهرين، فإن أغلب السودانيين تجاوزوا نفسياً مرض (كورونا)، وتلاشى ذلك الشغف الهستيري بالوباء، وإحصائية المُصابين وعدد الموتى وحالات الشفاء، ولم تعد تلك الأرقام تتداول بين الناس، وبدا أن كل شيء يشير إلى وضع (كورونا) في رفوف الأمراض التي تفتك بالسودانيين دون أن ترعبهم..!