سودان فيرست- عزمي عبد الرازق
“ذكّرونا بمجاهداته، وتلاوته، ثبّتونا في مصابنا ومصابكم، لا تبكوا عليه” إنه صوت عصام، الابن الأقرب إلى والده تقريباً يشق الصفوف في باحة مُستشفى رويال كير، ينطلق الآذان من مكان ليس بعيداً، في شارع يسمى “كوريا”، كانت الساعة تقترب من السابعة إلا عشر دقائق مساءً، قبيل ذلك تضاربت الأنباء عن وفاته، وامتلأ الأُفق المنظور بالاستفهامات، وامتلأ المكان بالناس وكاميرات التلفزة، وجوهٌ باكية، ووجوهٌ مسفرة، عليها غبرة، بعض الملامح كساها الأسى، “يمة وصال” أظنه صوت أُمامة ابنة الشيخ وقرة عينه، كيفما علّمها الثبات، أو إحدى بنات الأنصار، ووصال لا تبكي مثل ما تفعل الأرامل، ولكنها تطلق صوتها بالدعاء “البركة في أمة محمد، مات الشيخ، مات العالم المجدد، مات الرجل الأمة”.. شيئاً فشيئاً تُخفي غابات الأسمنت في أنحاء برِّي آخر ومضة للشمس.
إنه الخامس من مارس 2016، تطلق المآذن أصوات الفجر والنّبّاه، يصحو الشيخ من نومه المُتقطِّع بعد أن أكمل ثمانية عقود وأربعة أعوام، وهو لا يزال يمضي في عباب بريقه الإنساني، يتناول المصحف كعادته ويتلو القرآن الكريم، لقد أكمل التفسير التوحيدي، وانسل من خواتيم مُجاهداته يتوق للخلاص، يغمس يده في إناءٍ من الماء لفريضة الوضوء مثل ما قام بفريضة التفكير، ينتعل حذاءه، ويصوب خطاه نحو المسجد القريب، المسجد الذي طالما مرغ فيه وجهه للحي الذي لا يموت، يا سبحان الله، صوت شيخ الزين في “السيدة سنهوري” ينتزع الدموع ويبلل اللحى.
الساعة تقترب من التاسعة والنصف صباحاً، وهو الوقت الذي سيطل فيه المهندس تاج الدين بانقا مدير مكتب الشيخ ليخط خارطة برنامج اليوم، سيكون من بينها عزاء وعقد قِران، وقبل ذلك يطلب الترابي الذهاب إلى مكتبه في شارع أوماك، عشر دقائق تفصل سيارة اللاندكروزر عن هنالك، يتجمّع أمناء الحزب، بعضهم يشتكي من اتّساع الفتوق في لجنة الحريات، وخلافات صغيرة في لجنة الحكم، يجلس الشيخ في مقعده ذي اللون الأخضر، ويبذل وسعه لتقريب الشقة، سيما وأنه وهب ما تبقى من عمره للحوار الوطني ووحدة الإسلاميين، في الأيام الأخيرة لم يكن يُفرِّق بين طلاب الوطني والشعبي والإصلاح الآن، كان يعاملهم كخيوط أمل لمشروع طالما حلم به، وعمل له منذ ستينيات القرن المُنصرم، ولذلك لم ترصد الصحف له موقفاً مُعادياً لإخوانه في السلطة منذ خطاب الوثبة، بل منذ وفاة يس عمر الإمام ساعة.
“فتى أخلاقه مُثل”
الساعة تقترب من العاشرة صباحاً، أبواق السيارات تسُب بعضها في الزحام المتعجل، الخرطوم كدأبها في الأشهر الأخيرة تهب كل حركتها للحظات الذروة، المقال الأشهر هذا الصباح لصديق محمد عثمان، وهو يكتب حديث السيرة والسريرة “فتى أخلاقه مثل”.. تلك القصيدة المادحة التي نظّمها إمام علي الشيخ في حق شيخ حسن، والصحف أيضاً كانت تحتفي بحديث البشير وقتها عن أحلام الشعب السوداني والإعلام المغضوب عليه، يقلبها الترابي بقلقٍ بائنٍ، يبتسم قليلاً، بندول الساعة يتأرجح، العاشرة والنصف إلا خمس دقائق موعد موتة الترابي الأولى.
حالة من الصمت تُخيِّم على المكان، يُحاول الشيخ الثمانيني جاهداً أن ينهض فلا يقوى على النهوض، يسقط على المقعد، كان الطبيب قريباً، وكان القلب قد توقّف، تماماً، من يطمئن اللجان في قاعة الصداقة؟ ومتى القلب في الخفقان اطمأن؟ تخف به سيارة الإسعاف المُسرعة إلى رويال كير، ويعم الخبر كل مكانٍ، الترابي يتعرّض لنوبة هبوط حاد ويُنقل إلى مستشفى رويال كير، بل هي ذبحة قلبية، كثيراً ما كان قلبه يتألم، ولكنه لم يكن مضخة صدئة، وعندما تمّ اعتقاله وترحيله إلى بورتسودان قبل سنوات قليلة، كان ندى الجدران الباردة قد غمره، وأُصيب برطوبة في القلب، مما اضطر أُسرته أن تطلب له الأطباء، ويذهب قبيل أسابيع إلى قطر للقيام بفحوصات كاملة في مدينة حمد الطبية، ويعود ليكمل مُهمّته الحوارية، يمتلئ المكان بالمُشيِّعين، قبل ذلك ينطلق أذان الظهر، يؤم الشيخ السنوسي المُصلين، ويطلب الدعاء للشيخ، ويلح في الدعاء، ويذكِّر الناس بيوم الجمعة الذي سبق هذه الفجيعة، الشيخ كأنّه يُودِّع إخوانه يحرص على صلاة الجمعة بمسجد القوات المسلحة، ويخطب في حضرة البشير مُذكِّراً الناس بالوفاء بالعقود، ومُحذِّراً من عدم الالتزام بمخرجات الحوار الوطني، كأنّه يبذل وصيته الأخيرة.
عصام لا يُكلِّم الناس
في الساعة الخامسة مساءً، عصام لا يكلم الناس، وصديق يتنحّى جانباً، وينتحب في وقارٍ، ثمة تزاحم في مداخل المُستشفى، يتناقص في الطابق الأعلى، حيث أنّه لا يُسمح بالمُرور إلا لبعض الشخصيات المُقرّبة، وتنتهي حركتها بعيداً عن غرفة العناية المُكثّفة، ما رشح عن الطائرة التي ستقله إلى ألمانيا كانت مُحاولة لصرف الأنظار المشدودة نحو رويال كير، وتلافي أيما سيناريوهات قادمة، والأطباء أيضاً لا يكلمون الناس، فقط عميد الأسرة الدكتور دفع الله الترابي يُحيط بحقيقة ما يجري، مرة أخرى يتوقّف قلب الترابي، وهي الموتة الثانية.
تتضارب المعلومات، ولا يُسمح حتى لوزير الصحة الولائي الدكتور مامون حمّيدة بالدخول، فقط يتوغّل قليلاً ويقلب نظره في سقف المشفى الأزرق الذي تضيئه بعض الثريات، ها أنذا أبصر شيوخ الحركة الإسلاميين يتوافدون، وتطلق “السارينة” صافرتها، يدخل الرئيس البشير من باب خلفي، ويدخل البقية من أبواب مُتفرِّقة، وتسري شائعة بأن الترابي في حالة مستقرة بعد نقله من العناية إلى غرفة بالجناح الخاص، تسع عدداً أكبر من المُرافقين، الأطباء يقولون إنّ القلب يعود للعمل والدورة الدموية تنتظم، والمريض تحت الملاحظة الطبية لمدة 24 ساعة، لكنها في الحقيقة هي اللحظة التي يبذل فيها الأطباء جهوداً جبّارة لإنقاذ حياة الشيخ، وينتهي الحال بفريق طبي يُقرِّر ما يُمكن فعله، قسطرة للقلب أم قسطرة علاجية؟ عضلات القلب تضعف وتتضرّر ثلاثة شرايين، نلمح دبلوماسيين أجانب، من ضمنهم السفير الفرنسي برونو أوبير، نلمح السيسي والطيب مصطفى وحسن عثمان رزق والسموأل خلف الله، الحزب ينتبه لحالة القلق والشائعات، فيصدر بياناً يُوضِّح فيه مُلابسات الوعكة التي ألمّت بالأمين العام، ويطلب له الدعاء.
تضارُب المعلومات
السادسة مساءً، بندول الساعة يتأرجح، مصدرٌ طبيٌّ يُردِّد في صوت خافت أنّ الترابي يُعاني من نزيف في المخ وحالته حرجة جداً، حتى أنه لم يستجب للعلاج، ينسب ذلك الحديث للدكتور الفاتح الملك استشاري المخ والأعصاب، فيشير حسب التشخيص إلى حدوث نزيف دماغي تسبب في دخول الترابي في غيبوبه كاملة، “يا إلهى” تسمعها تدب تحت الشفاه، أباريق القهوة فارغة على السباتة الحمراء.
كان ذلك في تمام الرابعة والنصف عصراً، كان عصراً حزيناً، ولكنهم لا يُعلنون عنها إلا في السادسة، في تمام السادسة والنصف يموت الترابي موتته الأخيرة، تصعد الروح إلى عنان السماء، الروح التي كانت حبيسة الجسد النحيل، و”الجسد مصلاية الروح” وفقاً لعطاف خيري. يخرج صديق دامع العينين، ويعلن خبر الوفاة، يضج مستشفى رويال كير، وتسمع الدعوات تتعالى مَمزوجةً بتكبير ولوعة، ينفتح الأسانسير ويخرج منه الشيخ السنوسي، وتاج الدين وكمال عمر، وبشير آدم رحمة، ويهبط الأستاذ حسين خوجلي من سيارته السوداء، بينما يطلب عصام في ثباتٍ من الحضور الذهاب إلى المنزل، لكنهم يصرُّون على أداء صلاة المغرب في باحة المستشفى، على مقربة من الروح الصاعدة، تنطلق صافرة الإسعاف وعليها الجثمان، تنطلق تنهيدة من أعماق قناة أم د رمان اليتيمة، لقد كساها السواد.
يحكي أحدهم أيام المُفاصلة ورأب الصدع، قال إنّ زعيم الجماعة الإسلامية في باكستان قال لهم: “لماذا تختلفون حول الشيخ وقد عرفنا السودان به؟” صحيفة أجنبية تصفه بالرجل الذي جاء بـ(بن لادن) للخرطوم، بينما تصفه (الديلي ميل) في هذه الساعة بالزعيم المعارض والأكثر شراسة في انتقاد حكومة البشير.
عربة الإسعاف
تتوغّل عربة الإسعاف إلى داخل المنزل بالمنشية وسط نوباتٍ من البكاء وحالات تشنج، أحدهم يصيح: “رحل أمل الأمة”، يُحاول عبد الرحمن الصادق أن يشق طريقه وسط الجُمُوع ليُعزِّي عمّته المكلومة، تخب سيارة الرئيس البشير مُسرعة وتقطع المسافة من آخر شارع الأسفلت إلى الداخل في ثلاث دقائق، قبالة مدخل المنزل يهبط البشير وهو حزينٌ ومُنكسرٌ، كما يبدو، تتعالى الهتافات: “شيخ حسن شهيد فداء التوحيد، عضُّوا على وصاياه بالنواجذ”، يتوغّل الرئيس بصُعُوبة بعد صناعة سياج أمني حوله، يذهب إلى الصالون مُباشرةً، غازي يُحاول الدخول بجسده النحيل وعقله المُتّقد، وقد بدا حزيناً أيضاً، منصور خالد يمضي للأمام وهو يتوكأ على عصاه، إنه يشيخ في هندامه الأفرنجي الجميل، ويهش بالعصا على الذكريات.. صديق يخطب في الجُمُوع ويُعلن تعميد الدكتور دفع الله كبيراً للأسرة، ومقرراً بشأنها، ويقول إنّ الشيخ أوصى بأن يُدفن حيث عاش، وإنه مات في العمل، ثلاث موتات، وإنه كان يُنادي بالحوار والوحدة، ويختم: “موعدنا غداً في مقابر بري اللاماب”.
الفضائيات تُوقف البث
القنوات السودانية تُوقف بثّها بعد صلاة المغرب، وتبدأ في تلاوة القرآن الكريم ووضع صورة للشيخ الترابي، الدكتور القرضاوي ينعيه للأمة الإسلامية، وكذلك حركة حماس، وتوكل كرمان، وجميع قادة العمل الإسلامي، الدكتور أمين حسن عمر يبكي في قناة النيل الأزرق، راشد الغنوشي ينعي للأمة الإسلامية الفقيد الترابي في تلفزيون السودان، أم درمان تضع صورة كبيرة للترابي وخلفية سوداء تعبيراً عن الحداد، الدكتور علي الحاج يدخل جوازه للسفارة السودانية في برلين، ويتأهّب للوصول الى الخرطوم يوم الاثنين، الإمام الصادق المهدي ينعيه بعاطفة رقيقة، ويستدعي ذكرياته معه منذ أوكسفورد، ويشهد له بالعلم والتدبُّر وقُوة الإرادة، شورى الوطني يُوقف فعالياتها في مركز الشهيد الزبير، ويعود لهم إبراهيم محمود بالخبر الأكيد، ينفض الجمع، وينعيه أيضاً الإعلامي فوزي البشرى بوصفه “لم ير بأساً من عراك الدين أو قلة التديُّن بالحياة ولم يتهيّب كثير الأذى أو قليله، وإنما كان وظل باباً في السياسة جديراً بالبحث والتأمُّل”، وما لم يقله فوزي أو صوب نحوه العنان، آية في كتاب الله كان يتمثلها الترابي حتى آخر لحظاته، وهو يجمع الدين بالسياسة والحياة، (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).. لقد رحل.