الخرطوم- عزمي عبد الرازق
اختار فارس النور، أيقونة العمل الإنساني، كما يوصف دائماً، أن يعمل خلف الكواليس، يبدد حيرة الغارمين ويمنح الأمل لكثير من الفقراء والمرضى الذين تقطّعت بهم الأسباب، عبر منظمته “مجددون”، كل ذلك دون أعباء بروتوكولية، لكنه اختار أخيراً أن ينتقل من العمل التطوعي إلى الأضواء السياسية الكاشفة، ويصبح بالمرة مستشاراً لنائب رئيس المجلس السيادي وقائد قوات الدعم السريع، أو بالأحرى يمنح بريقه الثوري للفريق محمد حمدان حميدتي!
فارس بلا حصان
أسباب كثيرة، كانت تُبعد فارس النور، رئيس منظمة مجددون، عن دائرة الفعل السياسي، لكونه أحد أيقونات ثورة ديسمبر، التي اختار نجومها العزوف عن المشاركة في الحكومة الانتقالية، إلى جانب تفاعله الطاغي، مع الأعمال الإنسانية، المحضة دون سواها، إذ أفرغ وسعه وسخر جل وقته للمنظمة، فارس اعتلى عشرات الجياد البطولية، لكنه الآن يبدو في حاجة إلى جواده المألوف أكثر مما مضى، خصوصاً وأنه لم يخطر على بال أحد تقريباً أن يقتحم باب السُّلطة، بهذه الكيفية المباغتة، ليلحق ربما بناظم سراج، الذي بات هو الآخر “مديراً عاماً” لوزارة التنمية الاجتماعية ولاية الخرطوم، وكلاهما كان مسار صعوده الجديد مثار جدل متواصل، فيما اختار الأول، وأعني فارس، العمل كمستشار لنائب رئيس المجلس السيادي محمد حمدان دقلو “حميدتي”، بعد أن صمت عن العرض لعدة أشهر، كان سراج يحاول أن يضيئ بزيته قنديل نفس الوزارة الذي انخرط في مشاغلها قبل التكليف، لكنه يؤخذ عليه أيضاً أنه حصل على الموقع بالتعيين، وليس عبر منافسة عادلة وشفافة، بشكل رسخ انطباع التمكين، وهنا يبرز سؤال يبدو في غاية الأهمية، هل سيتولى فارس منصبه داخل القصر الرئاسى، أم انه سيحصل على رتبة عسكرية في الدعم السريع، وأي ملفات ستوكل إليه تحديداً؟
العرض السري
ثمة من يردد بأن حميدتي عرض على فارس، العمل معه منذ أيام الاعتصام، وقت أن بلغ هتاف الميدان تمجيد قائد الدعم السريع جهاراً “حميدتي الضكران الخوف الكيزان”، وكان هنالك مسار مشترك لتموين بعض المناشط، إلا أن فارس الذي يبدو أنه وافق على العمل مع حميدتي منذ ذلك الوقت في السر، اختار أخيراً أن يجهر بهذه الخطوة من جانبه، في شجاعة نادرة، أو في جرأة على نحوٍ أكثر دقة.
تطلعات خفية
في الجانب الإنساني لشخصية “فارس النور” التي انخرط في تعريف الناس بها، قطعاً من خلال مساهمات العمل الاجتماعي، وكونه مبذولاً للآخرين بسخاء، يبدو أن هنالك تطلعات سياسية ظلت خفية، بالرغم من أن الجانب الذي رفعه لهذا المقام، هو الذي أهله لتولي قيادة منظمة مجددون، والتي رجحت بعض الأصوات أنها تتبع للشيخ محمد بن زايد ـ رئيس المنظمة الأم في الإمارات، وبالتالي فإن فارس هو وكيل المنظمة في السودان، بشكل جعل أياديها السخية دائماً في الموعد، دون الحاجة للتبرعات واستقطاب الدعم عبر نفير المنظمات الخيرية، ولذلك فازت مجددون بجائزة محمد بن راشد “صناع الأمل” وحصلت على مليون درهم إماراتي تقريباً، وهنا لن تعدم مقاربة بين نشاط حميدتي وفارس، كلاهما ينطلق من نفس المشكاة، وربما تكون الإمارات هى مفتاح فهم أوجه التواصل بينهما، أو فض الغموض عن اللغز.
منذ اليوم الأول لاعتصام القيادة العامة، والذي استمر لأكثر من ثلاثة أشهر تقريباً، انخرط فارس النور في الأعمال الإنسانية، وكان بارزاً دور منظمته في رعاية الجوانب المعنية بتوفير الطعام، إلى جانب العمل المكثف الذي تقوده مجموعة من الشباب والفتيات ينشطون في توفير الطعام والشراب للمعتصمين، هؤلاء الشباب كانوا يرتدون سترات خضراء فاقع لونها، يعملون في همة ونشاط عال، أشكالهم مألوفة لدى الجميع، كيف لا وهم ذاتهم المتطوعون الذين تجدهم في تقاطعات الطرق خلال شهر رمضان، يمدون المارة بالأكل والشراب أثناء ساعات الإفطار، وقد ألفهم الجميع وتفاعلوا معهم، وبدأوا يعملون كخلية نحل في نشاط وهمة عال وتجرد ومحبة أيضاً جعلتهم كملائكة الأرض.
“كل لقمة امنحها لجائع في سلة غذاء العالم أشعر بأن سببها سوء الإدارة”، كانت تلك مرافعة فارس النور اثناء التحقيق معه داخل معتقلات جهاز الأمن، كان ذلك عند انطلاقة الثورة، وقبلها أيضاً بدأ الشاب في عقده الرابع تقريباً منخرطاً في موجة الاحتجاجات التي أطاحت بالبشر، ما عرضه للاعتقال، وهنا اكتسب فارس قوة جماهيرية، لأن المعتقلات نفسها تمنح النجومية مقابل الانتقاص من الحرية، وهو غالباً السبب الذي جعله أحد قادة الثورة، وعلى معرفة بطبيعة تفكير مدير جهاز الأمن والمخابرات الأسبق صلاح قوش، كما اجتذبت صفحته في الفيسبوك آلاف المعجبين، فضلاً على أنه خلال ثماني سنوات، قدم عبر مبادرة «التعليم مقابل الغذاء» أكثر من 40 مليون ساندويش مجاناً للطلاب، كما نجح فريقه الذي يناهز 1200 متطوع في توفير مياه للشرب ل100 مدرسة.
حوار مع حميدتي
الخطوة التي اتخذها فارس بقبول المنصب الاستشاري الرفيع، لم تكن محض صدفة، كما قال هو بذلك في رسالة مشفوعة بالعاطفة الوطنية على جدران صفحته بالفيسبوك، حيث ذكر أنه أدار حواراً عميقاً مع نائب رئيس المجلس السيادي، حميدتي، قائلاً؛ “أعلم أن هذه الثورة هي الفرصة الأخيرة للسودان ليكون دولة نعتز بها أو لا يكون”، لذلك كنت حريصاً على الالتقاء بالفاعلين في المشهد السياسي ومن أهمهم نائب رئيس مجلس السيادة، ودخلت معه في حوارات مطولة، كان هدفي الأول منها أن أشرح له خطورة الانقلاب على الديمقراطية وأن ذلك سيقود حتماً الى تفكك وانهيار السودان “فوجدته حريصاً على إكمال الفترة الانتقالية وصولاً الى الانتخابات الديمقراطية”، على حد تأكيد فارس الذي يمضي للقول إن حميدتي تبنى طرح مبادرة لميثاق شرف لحماية الديمقراطية يوقع عليه جميع الفاعلين في المشهد السياسي وفي مقدمتهم قادة الجيش، لافتاً إلى أنهم وضعوا برنامجاً متكاملاً لتحقيق أهداف ثورة ديسمبر. وبما أنه كان لابد من آلية لتنفيذ البرنامج، كانت تلك دوافع فارس النور لقبول منصب (المستشار للفريق أول حميدتي) على أمل تنفيذ ذلك البرنامج.
ما أن أطلق أيقونة العمل الإنساني ومستشار الفريق حميدتي الجديد تصريحه هذا، حتى ضجت الأسافير ، ما بين رافض ومؤيد لهذه الخطوة، لأن كثيراً من الأصوات كانت تأمل أن يتولى “نجمهم” منصباً آخر يخدم به وطنه، أو يتفانى وشرفه لاستعادة الديمقراطية، لكنه أيضاً، كما يبدو من ثقة مطلقة يحظى بها في أوساط الشباب وبعض الثوار، لن يعدم من يدافع عنه، على الأقل، ولو بمنطق المتنبي في دفاعه عن من جلب إليه الأذى “فإن لم يكن الفعل الذى ساء واحداً فأفعاله اللائى سررن ألوف”.