الطيب ابراهيم
(يبدو أنك محظوظ يا صديقي لأنك على الأقل تعرف لماذا تُقاتل، أما أنا فلا أعرف لما خٌضت هذه الحرب ولمصلحة من؟).
لم تكن هذه عبارة حائرة من بطل رواية مائة عام من العزلة، الكولونيل أورليانو بوينديا قالها لصديقه الوحيد ورفيق حروبه جيرليدو ماركيز في لحظة يأس، وإنما كانت تعبر عن حالة جنرالات أمريكا الجنوبية ما بعد التحرر من إسبانيا والذين كانوا يشعلون الحروب ويعيثون في الأرض الفساد لأتفه الأسباب، ولم يكن الكولونيل بوينديا هنا إلا نموذج استدعاه غارسيا ماركيز لتصوير المشهد العبثي لدول الكاريبي في ذلك الوقت، حيث الحكومات لا تدوم أكثر من شهور ويتم تغييرها بالقوة كما ينزع أحدهم جواربه، هذه الحالة الفوضوية التي كانت متلازمة لدول أمريكا الجنوبية دفعت ماركيز لتصوير بطله بوينديا منزوعاً من الإنسانية ومتجرداً من كل سمات الحكمة التي تمنعه عن خوض حرب لا يعلم لماذا قادها وكيف ينهيها، وكأنما يُريد القول إن الجنرالات يشعلون الحروب لأتفه الأسباب ويضعون حداً لها وفقاً لمزاجهم المتقلب تماماً كما فعل الكولونيل بوينديا حينما وقع على اتفاقية انهاء الحرب دون حتى شروط تحفظ له موضوعية إعلان الحرب.
الحرب عند ماركيز تتوسط إحساسين متلازمين، إحساس الغباء الذي يدفع لإشعال الحرب والإحساس باللامبالاة التي ينهيها بها دون حتى إن تكون هناك شروط ولو صورية لتبرير موضوعية الحرب.
هذه الحالة الملتبسة يصورها لنا ماركيز وهو يسرد حياة جنرال (ماكندو) الذي خاض أكثر من اثنين وثلاثين معركة مدافعاً عن الحزب الليبرالي ضد المحافظين، ليكتشف بالصدفة بعد سنوات طويلة أن الحزبين ليسوا متناقضين بمقدار يدفع لإعلان الحرب، وأن الاختلاف الوحيد بينهما هو أن المحافظين يطلون منازلهم باللون الأزرق، بينما الليبراليون يطلونه باللون الأبيض مثل حمامة.
الحرب إذن كائن غبي، يتغذى من فرضية تضخيم الذات، مثلما كان يفعل المحافظون وهم يصممون على أنهم ورثة الاله بينما ينظرون للليبراليين باعتبارهم ملحدين ورفقاء الشيطان، لكن بعد سنوات هتف الكولونيل بوينديا الذي كان مغرراً به حينما رأى مساوئ المحافظين (يا للعار، أنتم ليس أكثر من لصوص).
صناعة الحرب كما يصورها ماركيز في أضخم عمل أدبي في التأريخ تبدأ بالتشكل وفقاً لفرضيات عديدة، أهمها بالطبع تضخيم الاختلافات وتصوير الآخر من زاوية أكثر مكراً، بحيث يتم فيها تزييف الحقائق للحصول على صورة له تثير غضب الرأي العام، وقبل ذلك بالطبع تضخيم (إنأة فرويد)، مثلما كان يفعل المحافظون كما صورهم غارسيا ماركيز وفضحهم على لسان كولونيله (يا للعار، أنتم ليس أكثر من لصوص).
لكن ماركيز الذي كان ممسكاً بخيوط عمله ومُلماً بواقع بلاده أدرك مسبقاً أن الطريقة التي أتبعها الكولونيل أورليانو بوينديا في إنهاء الحرب لن تكون مُدهشة بالنسبة للقارئ لعلمه أن القارئ نفسه يدرك أن الحرب أمر عبثي، وأن الواقع الذي تشتعل فيه الحروب لأتفه الأسباب يتقبل أن تنتهي فيه لذات الأسباب.